لا شَكَّ في أَنَّ القَضِيَّةَ الفِلَسْطينِيَّةَ تُشَكِّلُ مِحْوَرَ الصِّراعِ العَرَبِيِّ الإِسْرائيلِيِّ وَأُقْنومَه، وَممّا لا شَكَّ فيه، كَذلِكَ، أَنَّ القَضِيَّةَ ذاتَها مَرَّتْ بِمَراحِلَ سِياسِيَّةٍ، وَاسْتراتيجِيَّةٍ، وَدِبْلوماسِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، بَدْءًا بِبُنْدُقِيَّةِ الثّائِرِ، مُرورًا بِغُصْنِ الزَّيْتونِ، وَلَيْسَ انْتهاءً بِمُحاوَلَةِ الوِلاياتِ المُتّحِدَةِ الأَميركِيَّةِ وَأْدَها عَلى طريقَتِها المَعْهودَةِ في إِدارَةِ الصِّراعِ، حَيْثُ تَتَغَيّا جَعْلَها صَفْقَةً اقْتِصادِيَّةً مُجَرَّدَةً مِنْ حُقوقِ الشَّعْبِ الفِلَسْطينِيِّ السّياسِيَّةِ، وَالقانونِيَّةِ، وَالتّاريِخِيَّةِ المَشْروعَةِ.
وَإِنْ كانَ مِنَ المُتَعَذَّرِ فَهْمُ مَراحِلِ القَضِيَّةِ الفِلَسْطينِيَّةِ السّابِقَةِ تِلك بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّحَوُّلاتِ الدّاخِلِيّةِ وَالإِقْليمِيَّةِ التي شَهدَتْها، فَأَعْتَقِدُ، كَذلِكَ، أَنَّه لا يُمْكِنُ فَهْمُها بِمَعْزِلٍ عَنْ طَبيعَةِ النِّظامِ الدَّوْلِيِّ وَتَحَوُّلاتِه، وَأزيدُ لِأقولَ: إِنَّنا نَحْيا في نِظامٍ دَوْلِيٍّ وَرِثَ عَنْ سابِقِه مَجْموعَةً مِنَ الأَمْراضِ في العَلاقاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ؛ وَذلكَ لِأَسْبابٍ عِدَّةٍ، أَظْهَرُها شُيوعُ دِبْلوماسِيَّةِ القُوَّةِ النّاهِضَةِ كَتُركيا، وَإيران، وَالبرازيل، وَالتي تَرْفُضُ "دِبْلوماسِيَّةَ الشُّرْطِيّ" التي تُمارِسُها الدُّوَلُ العُظْمى، فَتُحاوِلُ أَنْ تَبْنِيَ نُفوذًا إِقْليمِيًّا يُبَوِّئُها دَرَجَةَ الفاعِلِيَّةِ عَلى المُسْتوى الدَّوْلِيِّ، وَنُفوذُ الثَّوْرَةِ التي نَعيشُها في وَسائِلِ الإِعْلامِ وَالاتِّصالِ، والتي طَمَسَتِ الحُدودَ بيْنَ ما هو داخِلِيّ عَنْ ما هُوَ إِقليميّ أوْ عالَمِيّ، ما جَعَلَ النِّظامَ الحالي يَحْظى بِمُشاركَةِ الشُّعوبِ، والمُجْتَمَعاتِ المَدَنِيَّةِ، وحشْدها فاعِلًا في ساحَةِ السِّياسَةِ العالَمِيَّةِ؛ الأَمْر الذي أَخَذَ يُحْرِجُ بَعْضَ نَظَرِيّاتِ العَلاقاتِ الدَّوْلِيَّةِ، خاصَّةً النَّظَريَّاتِ الواقِعِيَّةَ، والتي لا تُؤْمِنُ إِلّا بالدُّوَلِ فاعِلًا سِياسِيًّا فَحَسْب. وَبِالرَّغْمِ مِمّا تَقَدَّم، فَأقَلُّ ما يُمْكِنُ أَنْ يُقالَ عَنِ النّظامِ الدَّوْلِيِّ الحالي: إِنَّه نِظامٌ لَمْ تَتَّضِحْ بَعْدُ مبادِئُه، وَلَمْ تَتَأَكَّدْ مَعاييرُه.
تَكْشِفُ "صفقة القرن" التي أَعَدَّتْها إِدارَةُ رَئيسِ الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَميركِيَّة دونالد ترامب مُنْذُ 2017 لإِنْهاءِ الصِّراعِ العَرَبِيِّ الإِسْرائيلِيِّ عَنْ أَحَدِ أَهَمِّ مَبادِئِ السِّياسَةِ الأَميركِيَّةِ في إِدارَةِ الصِّراعِ في النِّظامِ الدَّوْلِيّ الحالي، وَأَعْني تَحْويلَ الصِّراعاتِ السّياسِيَّةِ وَالتّاريخِيَّةِ إِلى قَضايا اقْتِصادِيَّةٍ يُمْكِنُ حَلُّها بِالاسْتِثْماراتِ، وهو لَيْسَ بِالمَبْدَأِ المُسْتَحْدَثِ في عَهْدِ الإِدارَةِ الأَميركِيَّةِ الحالِيَّةِ، بَلْ إِنَّه كان يَلوحُ في الأُفُقِ مُنْذُ انْهِيارِ الاتّحادِ السوفييتي، وَتَفَكُّكِ الكُتْلَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَدَعْمِ أَميركا للرَّأسماليَّةِ، وَالسّوقِ الحُرّةِ. وَلَعَلَّ ما قالَه فرانسيس فوكوياما (1992) يُعْطي تَفْسيرًا مُجْمَلًا للذِّهْنِيَّةِ السِّياسِيَّةِ للْخارجِيَّةِ الأميركيَّةِ التي نَعيشُها اليَوْم، يَقولُ: فالحَرْبُ، إِذَنْ، تَبْقى مَرْكَزًا لِنَمَطِ الحَياةِ الأَرُسْتُقْراطِيَّةِ، وَهذه الحَرْبُ كانَتْ – كَما نَعْلَمُ جَيِّدًا- بِمَثابَةِ كارِثَةٍ اقْتِصادِيَّةٍ. فالمَكْسَبُ يَكونُ، إِذَنْ، بِإِقْناعِ المُحارِبِ الأَرُسْتُقْراطِيِّ بِعَبَثِيَّةِ طُموحاتِه بِهَدَفِ تَحْويلِه، فيما بَعْدُ، إِلى رَجُلِ أَعْمالٍ مُسالِمٍ، تُساهِمُ نَشاطاتُه المُتَمَيِّزَةُ في إِغْناءِ مُحيطِه أَيْضًا.
إِخالُ أَنَّ قِراءَةَ مَفْهومِ "صفقة القرن" بِوَصْفِه اِسْتِعارَةً تَصَوُّرِيَّةً في الحَقْلِ السّياسِيِّ سَيَكْشِفُ، بِجَلاءٍ، عَنِ الطَّريقَةِ التي تُفَكِّرُ بِها أَميركا في إِدارَةِ الصِّراعِ في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّةِ كُلِّها، لا في فِلَسطين فَحَسْب. إنّ الاسْتِعارَةَ ظاهِرَةٌ تَرْتَبِطُ، أَوَّلًا، بالأَفْكارِ، وَاشْتِغالِ الذِّهْنِ البَشَرِيِّ، أَمّا ارْتِباطُها باللُّغَةِ، فَمُشْتَقٌّ مِن الارْتِباطِ السّابِقِ. وَهُنا تَتَبَيَّنُ أَهَمِيَّةُ تَحْليلِ الاِسْتِعارَةِ. وَلَعَلَّ خُطورَةَ الاسْتِعارَةِ السِّياسِيَّةِ أَنّها تَصْدُرُ مِنْ مَواقِعِ أولئك الذين يَمْتَلِكونَ السُّلْطَةَ، فَتَقومُ بِتَأويلِ العالَمِ، وَأَشْيائِه، وَمَقْوَلَتِهما، وَفقًا لِمَصالِحِ أصحابها وأيديولوجيّتهم. فَإنْ كانت الاسْتِعارَاتُ كياناتٍ نَحْيا بِها، فإنها نَفْسها قَدْ تَقْتُلُ، أَوْ تَئِدُ قَضَيَّةَ شَعْبٍ مُتَجَذِّرٍ في الذَّاكِرَةِ وَالتّاريخِ والجغرافية. وَلَيْسَ اسْتِعْمالُ الاِسْتِعارَةِ بِطُرُقٍ سَلْبِيَّةٍ شيئًا جديدًا على السياسة، فَمِنَ الشّائِعِ جِدًّا أنْ يُصَرِّحَ السّاسَةُ بِأنَّ أَعْداءَهم، كِلابٌ، أو خَنازيرُ، أَوْ قُرودٌ، وَأنْ يَسْتَعْمِلوا ذلك لِتَسْويغِ سلوكاتِهم غَيْرِ الشّرْعِيَّةِ.
تُعَدُّ اسْتعارَةُ السِّياسَة صَفْقَة الاستعارَةَ المُفَضَّلَة لَدى دَوائِرِ السِّياسَةِ الخارِجِيَّةِ الأَميركِيَّةِ، وَهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ اسْتِعارَةَ دارِجَةٍ بَيْنَ الاسْتْراتيجيّينَ، وَخُبَراءِ العلاقاتِ الدَّوْلِيَّةِ، وَأَعْني اسْتِعارَةَ الجِنرال البروسيّ كارل كلاوْزفيتز: الحَرْب سِياسَةٌ تُقامُ بِوَسائِلَ أُخْرى. ما يَهُمُّنا مِنْ كُلِّ ذلك أن استعارة صفقة القرن مشتَقَّةٌ مِنْ نَسَقٍ اسْتِعارِيٍّ مُتَجَذِّرٍ في تفكير الإِدارَةِ الأَميركيَّةِ السياسي، وَبموجَبه، تُعَدُّ الدَّوْلَةُ فاعِلًا عَقْلانِيًّا، أَعْمالُه بِمَثابَةِ مُبادَلاتٍ، وَمَهَمَّتُه تَوْسيعُ الأَرْباحِ، وَتَقْليصُ الخَسائِرِ.
إنَّ ما تَفْعَلُه الاسْتِعارَةُ – وَفقًا للايكوف وجونسون- أَنَّها تَقومُ بِحَصْرِ ما نُلاحِظُه، تُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلى ما نَراه، وَتَمُدُّنا بِجُزْءٍ مِنَ البِنْيَةِ الاسْتِنْتاجِيَّةِ التي نُفَكِّرُ بِوَساطَتِها، وَمِنْ هنا؛ تَكْمُنُ خُطورَةُ الاسْتِعاراتِ السِّياسِيَّةِ، كَاسْتِعارَةِ صَفْقَةِ القَرْن عَلى المُتَلقّي العَرَبِيّ، فِإذا كانَ مِنَ المُسَلَّمِ بِه – مِنْ وِجْهَةِ نَظَرٍ عَصَبِيَّةٍ- أَنَّ جزءًا كَبيرًا مِنْ تَفْكيرِنا غَيْرُ واعٍ بِالأَساسِ، فإنَّ صاحِبَ السُّلْطَةِ هو مَنْ يُديرُ الصِّراعاتِ، وَيَبُثُّها، اسْتعارِيًّا، وَفْقًا لِتَصَوُّراتِه التي يَبْني بِها العالَمَ.
[email protected]
أضف تعليق