تنهدت بدر قائلة: أربعة أتوق بشدّة للقياهم... آه لو عاد بي الزمان إلى الوراء، ماذا عساي فاعلة. هل أسلك نفس الدرب، أم...؟
بدر
خرجت بدر من بلدتها في أول فرصة لها بحجّة الدراسة الأكاديمية والعمل، لم تكن مجرّد حجّة، حلمها كان يرتكز على شيء آخر، أهم من الدراسة والعمل، كانت كالعصفور السجين في قفص بلدتها، محدودة الخطوات ومحسوبة عليها. هوت من الشبّان هذا وذاك بصمت، خوفًا من عيون النواطير داخل القرية، إلى أن جاءت الفرصة وانطلقت من أسرها نحو الحبّ والحرية.
لم تبحث عن الثراء والمال والاستقرار، همّها الوحيد حُضن تختاره لتفرغ أحلامها فيه. لم تجر حسابات دقيقة، فالرغبة أعمتها عن كل ما يحيط بالشبّان الذين وجدوها غنيمة لا تعوّض. كانت بمرحها وسذاجتها أشبه بالطهارة طافية على سطح الخطيئة وهكذا كان...
عزيز
درس عزيز موضوع الكيمياء والرياضيات في الجامعة العبرية في القدس. كان شابًّا مهذّبًا خلوقًا مجتهدًا ومسؤولا. عمل في ساعات المساء في احد الفنادق الفخمة في القدس، أحبّه الموظفون وزبائن الفندق لأخلاقه واجتماعياته. عشق عزيز بدر عشقًا جمّا حتّى الجنون، لم تبادله بدر نفس الشعور، بل كانت نظراتها صوب صديق له. رأت بعزيز مجرّد صديق وفيّ وليس حبيبًا، ووضّحت له الأمر بصراحة.
لم تنجذب إليه، لم تتصوّر في يوم من الأيام أنّها ممكن أن يكون شريكها. سافر عزيز إليها من القدس حتّى الجليل وهو محمّل بالهدايا الثمينة. وكانت تصدّه وتغلق الأبواب في وجهه. دعاها لعدّة رحلات في سيارته. سافرت برفقته في رحلات، إلى إيلات، وسيناء ونزهات في الجبال وبين البلاد ولكن عبثًا لم تهواه. لكنّ عزيز لم يقطع الأمل. حاول أصدقائه ثنيه عن محبتها بحجّة أنها لا تليق به ولا تستأهل حبّه الجميل، لكنّه لم يقتنع بذلك.
تأجّج حبّ عزيز لبدر، فهي صبية في أوّل عمرها، لم يجذبها من الشباب إلا أصحاب الشكل الخارجي والجذّاب، اعتقدت أن أمثال هؤلاء يملكون التذكرة الأولى لدخول قلبها. زاد حزن عزيز يومًا بعد يوم وبدر منغمسة بحبّ شباب آخرين، قسم منهم اهتم بها قليلا وقسم آخر تنكّر لها.
عرض أحد اصدقاء عزيز عليه، أن يبرهن له بأنّ بدر لا تستأهل حبّه العظيم، وأن يحاول إيقاعها بشباكه، لكنّ عزيز منعه أن يقترب منها حماية لها.
تركته بدر نهائيًا وانسجمت بحبّ شاب يهودي. فأصيب عزيز بصدمة كبيرة، ممّا جعل أصدقاءه يقدّمون له المساعدة النفسيّة والمعنويّة، حتّى يتخطّى هذه المحنة.
سمعت بدر بعد عدّة سنوات، بأنّ عزيز تزوّج بامرأة ثم تطلّق منها، وبعد عدّة سنوات، التقت بدر بعزيز، وإذا به برفقة امرأة أخرى تشبهها بالشكل كثيرًا. تجمّدت بدر حين رأت الشابة برفقته، فقال لها عزيز بثقة وبفرحة كبيرة: انها زوجتي الثانية.
شعرت بدر بأنّها خسرت حبّ عزيز، كان من الممكن أن يكون رفيقها المخلص، لسنوات طويلة... اختفى عزيز من حياتها، هكذا مثل إبرة في كومة قش.
يونس
درس يونس الهندسة في معهد "التخنيون" في حيفا. كان شابًا طويلا عريض المنكبين ضخم الجسد، أسمر مع شارب صغير، يفيض رجولة شرقيّة، مؤدّبًا وهادئًا وواثق الخطى، مطمئنا ناعم البال.
تعرّفت بدر على يونس خلال دراستها الجامعية، ومنذ اللحظات الأولى للقائهما، وقع في شباكها. تودّد اليها يونس تمامًا كتودد عزيز لكنّها فتاة لعوب شقيّة تعشق الحياة. لم تلتفت إليه ووقعت في عشق شاب آخر أسمه سليم، أخضر العينين جميل المحيّا تتهافت عليه الصبايا اليهوديات والعربيات من كل حدب وصوب، زير نساء بكل معنى الكلمة، وهو في نفس الوقت شوفيني من الدرجة الأولى، يطارد كل تنّورة، ويتعامل مع النساء باستخفاف واحتقار. نجحت بدر في اصطياده، ولم يكن الأمر صعبًا عليها، فحبّها للحياة كان جارفًا ومُعديا لمن حولها.
اختارت سليم ورفضت يونس. ركضت ورائه من ركن إلى ركن. كان أحيانًا يهرب منها، وأحيانًا أخرى يخادعها ويستهتر بها، لا مجال للمقارنة بين يونس وسليم. يونس يمتلك الرجولة والاخلاق والصدق وسليم يفتقر لذلك.
بعد أن تأكّد يونس بأنّ بدر غير معنيّة به. انسحب بهدوء واحترام مكنًّا لها الحب والتقدير وفي نفس الوقت.
لم تشعر بدر بقيمة حبّ يونس لها، إلا عندما قرأت عنه في إحدى الصحف، بأنّه سافر إلى إحدى الدول الأوروبية مع زوجته، للعمل في إحدى الشركات العالميّة الكبرى لمدّة خمس سنوات... اختفى يونس من حياتها هكذا مثل إبرة في كومة قش.
آرثور
آرثور يهودي من أصل أمريكي، خريج جامعة هارفارد.. شاب ثري جميل المظهر، جاء إلى البلاد، بهدف التبرع لبلدية تل ابيب، التقت به بدر صدفة في إحدى المقاهي وبدأ بينهما حديث انتهى بدعوتها لمشاركته وجبة عشاء في فندق فخم في تل ابيب.
ظهر آرثور في الوقت الغير مناسب، كانت في بداية علاقة متأجّجة مع فرحات، شاب متدين ومحافظ. نزل آرثور في فندق الهيلتون في تل ابيب وسكن فرحات في حد أحياء تل ابيب الفقيرة جدًّا. سافرت بدر في الباص لزيارة فرحات وكان عليها في منتصف الطريق تبديل الباص، لتجد نفسها أمام خيارين، الذهاب إلى آرثور في الهيلتون، أم إلى فرحات في الحي الفقير؟ وقادتها شهوتها إلى فرحات...
عرفت بدر من أحد الأصدقاء، فيما بعد، بأن آرثور كان معجبًا بها بشدّة، وارادها أن تكون شريكة حياته، إذا قبلت بذلك، لكنّه صرف النظر عنها، عندما أبلغوه بأنها مرتبطة مع شاب آخر، لم يعرف آرثور أن ذلك الشاب الآخر، هو مجرّد واحد من الذين قاموا باصطياد بدر لفترة وجيزة.
حزنت بدر على ضياع آرثور، خاصة بعد أن عرفت بأن حياته كلها تغيرت بسببها، وأصبح يتبرع بأمواله للعرب الفلسطينيين... اختفى ارثور من حياتها هكذا مثل إبرة في كومة قش.
ساشا
عمر شابًّا متزوّج من مدينة يافا، أسمر وشعره مجعّد جدًا. عيونه صغيرة وله نظرات ثاقبة. اعتصم بالجرأة والقحة. منذ أن رأته بدر وقعت في حبّه. تبادلا الحب في كل زوايا يافا وتل ابيب بكل الألوان وبجنون وعندما لم يجدا مكانًا لعشقهما ذهبا إلى مكان مهجور على شاطئ البحر في هرتسيليا ليتبادلا الحب في سيارته. كانت بدر تعرف أن عمر متزوج، ولكنّها لم تأبه بذلك.
في نفس الوقت تودّد اليها بهدوء دون ازعاج شاب يهودي غني من أصل انجليزي اسمه ساشا، كان قد أنهي الماجستير في جامعة كامبردج في بريطانيا وحاول أن يثنيها عن علاقتها بعمر، لأنّه كان يعرف بأنّه كاذب ويختلق القصص عن زوجته، كانت بدر تعزّي نفسها بأنّ عمر سيترك زوجته لأجلها. ذهبت نصائح الشاب الانجليزي بثنيها عن حب عمر أدراج الرياح.
أحبّها ساشا بشدّة، ولم تعتبره بدر سوى صديق يحميها ويحمل إليها الدفء والضوء في كل أزماتها.
حاولت أم عمر الاتصال بأهل بدر لتبعدها عن ابنها ويعود لزوجته، لكنها لم تفلح.. إلى أن جاء حبيب جديد أنساها عمر وما قبل عمر...
وبقي صديقها الانجليزي واقفًا إلى جانبها بإخلاص، متأملا ان تحبّه بدر في يوما ما.
عندما أعلن ساشا، لبدر بأنه سيتزوج من صديقة لها، ابتعد عنها بخطوات متئدة رزينة. شعرت بدر بالغيرة، كان أمام عينيها طوال الوقت، وأثبت لها طوال المدة، بانّه الصديق الصدوق والمتفاني بحبّها، لكنّها في حينه لم تر به سوى صديق يقف إلى جانبها... اختفى ساشا من حياتها هكذا مثل إبرة في كومة قش.
الخازوق
طارت السّكرة وجاءت الفكرة ومرّت السنون الطويلة، بعد أن تنبّهت بدر للفرص التي أضاعتها، فكل اللذين أحبوها بصدق لم تعطهم بال، ذهبوا في طريقهم واختاروا لهم رفقاء آخرين، كل اللذين اختارتهم وفضلتهم عن الآخرين، لم يتركوا لها سوى خازوق، وذكريات للحظات جميلة عابرة، حملت بدر خازوقها على كتفها وسارت في درب آلامها، تبحث عن ملجأ لها ولخازوقها.
في سيرها المتعب، توقّفت للحظة قائلة: لو عاد بي الزمان إلى الوراء، ماذا عساي فاعلة؟ هل أسلك نفس الدرب... أم....؟
قهقهت بدر وقالت: لست نادمة، فتلك اللحظات العابرة لن تعوّض. إنها منجم درّ عليّ ذهبًا، هيا يا خازوقي، إبقى معي وذكّرني بكل ما يجعل من البشر ملائكة.
[email protected]
أضف تعليق