بالكاد تناقلت وسائل الأعلام نبأ مصرع أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم دولة «داعش»، المدحورة منذ عام من العراق وسورية، وذلك لأن شخصية الرجل لا تعني لأحد شيئاً، بعد أن تلاشى تنظيمه الذي كان في وقت من الأوقات يسيطر على نحو نصف سورية وثلث العراق، ويدين له بالولاء أو يستلهم خطاه الكثير من الجماعات المسلحة في غير بلد أو مكان عربي.

وحدها الولايات المتحدة، ووحده رئيسها دونالد ترامب من حاول أن «يعمل من الحبة قبة»، وفي إعلانه عن تفاصيل عملية اقتحام ملجأ الرجل في إدلب، تم تصوير العملية، كما هي في حقيقة الأمر فعلاً، كما لو كانت فيلماً من أفلام «رامبو»، حيث يلجأ اليانكي الأميركي إلى ما لديه من عدة وعتاد وتفوق تكنولوجي، يؤدي المهمة، ويقتل في كل اتجاه دون أن يمس أحداً من جنوده خدش بسيط.
في التفاصيل، أشارت رويترز إلى أن القوات الأميركية دخلت المبنى الذي كان يلجأ إليه البغدادي خلال ثوان، بعد أن فجّرت الجدران تجنباً لاقتحام البوابة المفخخة، وأنها قامت بتطهير المجمع إما باستسلام من فيه أو بإطلاق النار عليهم وقتلهم، أما البغدادي، الذي طُلب منه تسليم نفسه فقد قام بتفجير نفسه مع أطفاله الثلاثة!

ربما كان ترامب يفضل القبض على البغدادي ليقوم إعلامه بعرض سينمائي، يستعرض فيه قواته أو ليقنع أحداً ما بأنه قد حارب الإرهاب، حيث معروف أن الولايات المتحدة لم تحارب فعلياً «داعش»، ولا حتى أنها تدخلت في الحرب ضدها، إلا بعد أن تم دحر التنظيم، ودخلت مع قوات سورية الديمقراطية لتسيطر على منابع النفط السورية في تلك المنطقة، التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة في أوج انتشاره وسيطرته على أجزاء كبيرة من شمال شرقي سورية.

ولمزيد من التأكيد، قالت أوساط المخابرات الأميركية نفسها: إن التحرك لاصطياد البغدادي بدأ قبل شهر فقط، في حين أن المعلومات الجدية التي كانت بحوزة المخابرات العراقية تعود إلى شباط العام الماضي، أي إلى ما قبل عشرين شهراً من اليوم، بعد اعتقال أحد كبار مساعدي البغدادي المدعو إسماعيل العيثاوي، الذي كان قبل سنوات أحد عناصر القاعدة.

أي أن واشنطن تدخلت لتضع الخاتمة لحكاية داعش، بعد أن قام الآخرون بتنفيذ كل فصول المسرحية السياسية الدموية على الأرض، تماماً كما فعلت في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت من أقل الدول التي قدمت الضحايا في تلك الحرب التي دخلتها متأخرة، لكنها بالمقابل حصدت أهم أو معظم حصادها النهائي، أو ظفرت بنتيجة الحرب، وربما لهذا فقد تعلمت الدرس، بعد ذلك حين تورطت بالتدخل في فيتنام، وهذا ما يقول به اليوم علناً رئيسها ترامب: إنه ليس على استعداد ليقاتل عن الآخرين، خاصة دون المقابل المالي.
لن نعود في هذه المقالة إلى المقدمات التي تدفع بها واشنطن إلى جماعات أو أشخاص بعينهم ليؤدوا لها مهام العمل الإرهابي القذر، بدءاً من الدفع بأسامة بن لادن للمشاركة بدعمها الاستخباراتي، في حرب المجاهدين بأفغانستان وهو المواطن العربي، ضد الوجود السوفياتي/الروسي السابق، وانتهاء بداعش الذي كان يقيم «دولة» واسعة الأرجاء على مقربة من أنف وعيون الأميركيين في بغداد، ما دام هؤلاء لا يقتربون من القواعد العسكرية الأميركية ولا حتى من «مصالحها» في تلك المنطقة، ولا من أهم حلفائها، ونقصد بذلك إسرائيل، وفقط حين تورط بن لادن والقاعدة في تفجير برجي التوأم في نيويورك، خاضت الحرب ضده وضد طالبان ولاحقته إلى أن قتلته.
لقط اتبعت واشنطن سياسة دفع القوى المحلية لمحاربة الإرهاب، وهذا قد يبدو أمراً هي محقة فيه، لكن كان يمكن لها أن تترك أمر قتل أو القبض على البغدادي لبغداد أو لسورية، لكن سيطرة حلفائها الأكراد على آخر معاقل داعش وفر لهم القبض على آلاف الداعشيين وبالتالي توفرت المعلومات عن وجود قادة التنظيم بمن فيهم البغدادي نفسه، لذا فقد داعبت مخلية ترامب المغرم بالظهور الإعلامي، وبالدعاية والأعلام، خاصة بعد إخفاقاته المتعددة في مواجهة كيم جونغ أون، ومادورو وإيران، لأن يظهر كلاعب هداف في لعبة كرة القدم!
من الممكن أن يؤدي ظهور ترامب بعد نجاحه في قتل البغدادي إلى تخفيف ضغط الكونغرس فيما يخص مساءلته بهدف عزله من منصبه، وهو بحاجة إلى إي أنجاز، خاصة بعد أن راهن على صفقة القرن لتؤدي هذا الغرض وهو يتقدم للسباق الرئاسي من أجل الفوز بولاية رئاسية ثانية وفشل. بالمقابل إذا كانت هناك من نتيجة لمصرع البغدادي فهي طي صفحة داعش نهائياً، فيما سيظهر السؤال حول إن كان هناك تخطيط لإطلاق أو تشجيع ظهور جماعة تالية كوريث له بعد أن ظهر هو كوريث للقاعدة، أم أن العالم العربي قد تجاوز تلك المرحلة.

على الأغلب أو من المرجح القول: إن ظاهرة الجماعات المسلحة التي «تمثل» خلاصاً أو على الأقل التي تداعب مخيلات الشباب العربي المرهق بالفقر والاستبداد، قد انتهت، بعد أن جرب الشارع الحراك الشعبي الذي تعثر في غير مكان، لكنه نجح في أمكنة أخرى، والذي بعد عقد من التجربة استمد خبرة كافية، ليبدأ في تحقيق نتائج أفضل، مستنداً إلى أمرين: أولهما الاعتماد على الذات والداخل وطرد التدخل الخارجي من المشهد، كما حدث في الجزائر والسودان ولبنان وحتى العراق، والثاني عدم الانزلاق على عسكرة الحراك أو الاقتتال.
فيما تبقى الأسئلة التي تطارد الولايات المتحدة وهي تمثل دور اللاعب الرئيسي في محاربة الإرهاب في المنطقة: لماذا تتجاوز أو تتجاهل وجود الاحتلال الإسرائيلي كأحد أخطر مظاهر الإرهاب في الشرق الأوسط، ثم لماذا تتجاهل أسبابه المرتبطة بالفقر والاستبداد، وهي تحيط أنظمة مستبدة عديدة في المنطقة بالرعاية والحماية، ضد شعوبها وضد مصالح العرب القومية؟ ولماذا لا تهتم كثيراً بتشجيع التحولات الديمقراطية الشعبية والحقيقية في المنطقة، بدلاً من صرف النظر عن ظهور الجماعات المسلحة، هذا إذا لم تشجعها بالأصل، وتصمت عليها دهراً، إلى أن تؤدي دورها في تفتيت الدول العربية وتدمير اقتصادها، ومن ثم تظهر كمنقذ أو كمحارب «دونكيشوتي» لتلك الجماعات؟!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]