اعتدنا على مفهوم المقاومة باعتباره ذلك الشكل المسلح ضد الاستعمار والاحتلال فقط . ولاشك أن من حمل السلاح في مواجهة الاستعمار، أو ضد الظلم في أي كان، ومارسه وهو مسلح بقيم أخلاقية إنسانية، وفي مقدمتها الحرية، احتل مكانة خاصة في وجدان شعبه، والشعوب قاطبة.
ولكن للمقاومة مفهوم أشمل وأوسع من مجرد حمل السلاح، وقيل أن من يحمل السلاح بدون ثقافة، مثل قاطع طريق . وتجدر الإشارة الى أن هناك شعوب أسقطت أنظمة فاسدة، ومستبدة ، بدون اللجوء الى السلاح ، مجسدة وعياً إنسانياً راقياً. إذاً العنف المسلح ليس الا وسيلة يلجأ اليها المظلوم تحت ضغط الظالم، وبعد أن يستنفذ كل الطرق السلمية الضاغطة بأشكالها المتنوعة ؛ العرائض، الكتابة، المؤتمرات ، المهرجانات الفنية والثقافية ، الاعتصامات ، المظاهرات، اغلاق الطرق وغيرها . أي انه قد لا يحتاجها أبداً ، ويعتمد مقاومة شعبية مدنية.
في خضم عملية المقاومة التي تخوضها الشعوب، عبر حركاتها الوطنية، او أحزابها الديمقراطية التحررية، تتبلور ثقافة مقاومة متنوعة وواسعة، قوامها العطاء والتماسك والتضامن الداخلي، ويرفدها الفكر والأدب والفن ، وتتحول الى سلوك يومي يحمله الافراد. تكون البداية، في العادة صعبة، أي مهمة إقناع الناس بالتخلي عن سكينتهم، وسلبيتهم، والتحرر من الخوف، والخروج على المستعمر، او الحاكم المستبد . وتتوكل ،عادة ، طليعة من الناس، مثقفون ثوريون في الغالب، قرأوا تاريخ شعبهم ، وتشرّبوا أدب المقاومة والتحرر، هذه المهمة الصعبة والخطيرة، أي تجييش الناس للخروج على الظالم . ومع تقدم الزمن ، وتوسع القواعد الشعبية، ينخرط المزيد من الكتاب ، والشعراء ، والأكاديميين ، والمثقفين، في حركات التحرر والمقاومة ، وذلك عبر الإنتاج الفكري والثقافي ، الذي يؤطر عملية المقاومة كثقافة ، وكفعل أخلاقي يهدف إلى تحرير الانسان واستعادة كرامته. وهذا عادة ما يساهم في خلق التوازن بين المقاومة كفعل ميداني ، والمقاومة كفعل أخلاقي انساني . وبنفس القدر من الأهمية، عادة، او من المفروض، أن يساهم المثقفون، او ثقافة المقاومة، في لجم الانحرافات السياسية، وضبط البوصلة الوطنية . ذلك أن الضغوط والحملات الوحشية التي تتعرض لها حركات المقاومة او قيادات الحراكات الشعبية العارمة ، قد تؤدي إلى أمرين سلبيين، إما الى الاستسلام وعقد الصفقات، المهينة والتي تؤدي إلى تكريس الظلم ، أو الى اللجوء الى العنف الأعمى، والمغامرات المدمرة. في هذه الحالة الكارثية يصبح للمثقف الناقد، الملتزم بالمقاومة ، دور محوري بل قد يكون وجودي بالنسبة للتماسك الوطني والأخلاقي للقيادات السياسية.
وفِي هذه الظروف يعيد مثقفون إكتشاف عيوب الثورة ونواقصها التي تراكمت دون الانتباه اليها، اثناء مسيرة الاشتباك، وينخرطون في عملية مراجعة نقدية تصوب الطريق ، في حين ينصهر مثقفون أخرون في الحالة التراجعية ويصبحون أبواقاً ، ووكلاء لها في اعادة انتاج ثقافة الهزيمة والفساد والتحلل الوطني والأخلاقي . وهذه الحالة تنطبق على مرحلة ما بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وسيادة القطب الراسمالي الامبريالي الغربي، والتي تركت اثارها الوخيمة على حركات التحرر بصورة عامة، والقوى الاشتراكية ، حتى تلك الناقدة للنهج الستاليني المستبد. وشكل هذا الانهيار فرصة للعديد من القوى التقدمية والاشتراكية لاعادة النظر في برامجها وتأويلاتها الأيدلوجية ، وفي مفهومها للمقاومة والتحرر والحريّة ، فأعادت الاعتبار لمفهوم الحرية ، حرية الفرد وحمايته من سطوة الأنظمة الشمولية ، بالارتباط مع مفهوم العدالة الاجتماعية ، والتعددية السياسية والثقافية والفكرية . في حين، ارتدت قوى أخرى بالكامل، وذابت في النظام النيولبرالي ، الامبريالي ، ولكن الشعوب فاجأتها، في بعض دول الغرب، وفِي العالم العربي، من خلال عودة الجماهير الى الشارع مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ، والتحرر من سطوة الاستبداد الاقتصادي الراسمالي ، والاستبداد السياسي المتوحش ، في مخاض عسير، مستمر ومتواصل، عبر موجات متتالية . وفريق ثالث، استمرأ الجمود والتكلس، وظل أسير دوغمائيته السماء. ونفس الحالة تنطبق على ما حصل ويحصل بعد الموجة الأولى من الثورات العربية ، التي ازمتها الأنظمة العربية ، وقوى الثورة المضادة ، العلمانية الفاشية والدينية التكفيرية الفاشية.
باختصار، في ظل هذا الانحطاط الأخلاقي المريع ، الذي يجسده النظام العالمي الراهن ، تجري إعادة انتاج ثقافة مقاومة، ببعد أخلاقي مختلف، تجمع بين حرية الفرد ، وحرية وتحرر المجتمع ، والسعي الى تحقيق العدالة واعادة توزيع الثروة . هناك حركات وحراكات، بعضها اضمحل، وبعضٌ اخر تعثر، وبعض آخر مستمر في محاولة لاعادة بناء قوى مقاومة، سياسية واجتماعية تحررية ، تسعى الى نظام عالمي عادل. ويشكل زعيم التيار اليساري في الحزب الديمقراطي الأمريكي، بيرني ساندرز ، وزعيم حزب العمال البريطاني ، جيرمي كوربين، ابرز الرموز العالمية في الدفاع عن اشتراكية ديمقراطية ، إنسانية، وفِي نقدهم لسياسات إسرائيل باعتبارها نتاج وامتداد الرأسمالية التوسعية والامبريالية الغربية، المسئولة عن البطالة والفقر واتساع الفجوات الاجتماعية ، داخل بلدانها، و والحروب الإمبريالية في الخارج . يتعرض هذان القياديان الى حملات تحريض وتشويه لا مثيل لها، سواء من القوى المحافظة، او من إعلام الشركات الضخمة الرأسمالية ، او من اللوبيات الصهيونية، وهي تُثقل عليهما، وتزيد اعباءً ضخمة على نشاطهما . مع ذلك اظهرا صموداً لافتاً، ومبدئية راسخة ، في مواجهة بنية النظام الرأسمالي القائم ، وان كان ساندرز اقل جذرية في مناهضته لهذا النيولبرالي المتوحش ، ويواصلا ، ومعهما أنصارهما ، من مفكرين ومثقفين في ترسيخ خطاب الحرية والتحرر ، وخطاب الاشتراكية ، خطاب العدالة الاجتماعية ، والمناهض للحروب وللمساندة العمياء للمحتل الإسرائيلي. لم يأت صعودهما من فراغ ، او بالصدفة ، بل نتاج عدة عوامل ، أهمها مواصلة التمسك ، وتطوير ثقافة مقاومة ، وخطاب مساواتي تحرري، دون التراجع في مواجهة ارث طويل وضخم من الشيطنة لقيمة الاشتراكية. وهاي تعود اليوم، وتنتشر بين الجيل الشاب ، وتكتسب شرعية شعبية.
لو عدنا الى ساحتنا الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وعقدنا مقارنة سريعة مع قيادات القائمة المشتركة ، مع بنيتها الذهنية وسلوكها السياسي والفردي ،سنصاب مرة أخرى بالكآبة ، والإحباط ، عندما نكتشف حجم العقم والعجز وفقدان العمود الفقري العقائدي والأخلاقي، وحتى العجز عن اجتراح تكتيكات معقولة . فقيادة المشتركة او مندوبيها في الكنيست ، خاصة الثنائي المعروف، ترتعب امام حملات التحريض، وتصوم طوعا عن واجب تحدي جذر التمييز والظلم الواقع علينا : نظام الفصل العنصري او بنية الدولة اليهودية الكولونيالية . لم يعد هولاء المندوبون يتجرأون على ذكر عبارة دولة "كل مواطنيها" تفاديا لغضب العنصريين، وطمعا بالحصول على الفتات . ورغبة بالالتزام ب "معارك " ناعمة.
السطر الأخير، هو اننا نحتاج ، في ظل تراجع وانحلال الخطاب السياسي الوطني، وفِي ظل غياب حراك شعبي واسع ومستمر، الى تجند المثقفين والأكاديميين ، والكتاب ، من الذين يحملون رؤية نقدية لهذه الحالة ، في ابداء الجرأة، لاعادة صياغة خطاب وطني ، وثقافة وطنية تحررية شاملة ، تخص مجتمعنا وعلاقتنا مع المجتمع الإسرائيلي ، مناهضة للصهيونية ، ونظامها العنصري السافر ، والكولونيالي . ثقافة مقاومة ، تتصدي للكذب ، والتضليل ، و الانحراف الساسي ، وتتصدى للعنف والاجرام الداخلي وللعدوان على المرأة ، واعادة جذور هذا العنف الى نظام الفصل العنصري والاحلالي. نعم ان مواجهة الاجرام الداخلي هي جزء من ثقافة المقاومة، المدنية السلمية الحضارية ضد النظام السياسي الاستعماري ، وهي أيضا جزء من مقاومة او مواجهة عجزنا وقصورنا وتأخرنا.
لا جدوى من مواصلة اطلاق خطاب مبتور ضد الشرطة الإسرائيلية ، بل الجدوى ، أولا في اطلاق خطاب ساسي، يُحمّل مجمل النظام الصهيوني عما آلت اليه سياسته الاستعمارية ، وثانيا عبر إعادة تنظيم المجتمع ، بمؤسساته المهنية ، واهمها في هذه الأيام ، بناء اللجان الشعبية ، القوية القادرة ، في كل قرية ومدينة.
[email protected]
أضف تعليق