جليلنا مالك مثيل وترابك اغلى من الذهب...والنساء اغلى ما فينا
وديع عواودة
شارع عكا صفد ..الحد الفاصل بين الجليلين الاعلى والاسفل. ذات يوم مر فيه دافيد بن غوريون مؤسس إسرائيل ورئيس حكومتها الأولى في مطلع ستينيات القرن الماضي. وقتها قام بجولته كما أراد وبسرعة خاصة ان هذا الشارع خلا وقتها من السيارات لكن البلدات العرببة المتشابكة في منطقة الشاغور من عين الاسد شرقا إلى مجد الكروم غربا قد استفزته حتى قال منزعجا لمرافقيه " خلت نفسي كأنني في سورية ". بعد الجولة امر ببناء مدينتي كرمئيل ونتسيرت عليت وبعض المناطير تحت عنوان " تطوير الجليل " لكن الهدف الحقيقي كان ( وما زال ) تهويد الجليل.
اليوم وبعد ستة عقود ازدحم الشارع إياه بالمواطنين العرب فبدا بحرا بشريا لا توقفه شارات حمراء... ولا هروات الشرطة فيما اتسعت البلدات العربية وتكاد تكون اليوم بلدة واحدة وهي تتعانق وتلتصق وتنمو وعيالها تكبر. لم ينجح مخطط بن غوريون لكن من خلفوه يواصلون مسعاهم لتحقيقه من خلال احتلالها من الداخل واحتلال وعيهم وتدجينهم بالكامل عبر اخضاعهم نهائيا بإشعال نار العنف والجريمة ببن حواريهم.
اليوم دوت أعلى صرخة ضد الجريمة للمستهدفين في وطنهم معلنين تمسكهم بالحياة الكريمة وبوعيهم الوطني ورفضهم للاستسلام للذل ولانتكاستهم. سبعة عقود ونيف مرت وباب الصراع ما زال مفتوحا مع الاخر ومع الذات.
عارضت وما زلت فكرة الإضراب المتقادمة لكني اليوم كنت بين المتظاهرين في الشاغور وامتلات املا وطمانينة باننا قادرون على مواجهة غول الجريمة. الاف من الشباب والصبايا اعدوا اللافتات والشعارات وهتفوا بغضب وكبرياء هتافات الحالمين بالبقاء والتطور والبناء لبنة لبنة حتى استكمال إعمار البيت وحمايته من هزات كانت وهزات ستكون.
ليس شعارا بل قناعة بان هذا الجيل مستعد وقادر على تسجيل غلبة على هذا التهديد بالذات لأنه استراتيجي ويهدد مستقبلهم ومكاسبنا كلها . نعم هم قادمون وقادرون بدعم وتعاون القيادات السياسية الحالية.
بوسع آباء واجداد هؤلاء الشباب ان يكونوا مرتاحين في مراقدهم فتضحياتهم لم تذهب سدى والاغصان تشبه جذورها. ربما تبدو هذه الكلمات حالمة لكن من كان هناك اليوم لابد وان استشعر الطاقات الكبيرة فينا.
كذلك ؛ من يساوره شك بوجود ملحمة بقاء في مجد الكروم وكل الشاغور بل كل مناطق بلادنا فله ان يحسم الشك بسماع روايات الناس كيف بقوا وصمدوا وواصلوا المشوار رغم زلزال النكبة وبقاء جمراتها بين اصابعهم وتحت أقدامهم الحافية.
صفحة او صفحتين من كتاب ابن مجد الكروم المؤرخ عادل مناع( نكبة وبقاء) تساعد في حسم هذا الصراع بين الشك واليقين والتاكد ان البقاء لم يكن صدفة او هدية.. فبعض الناس في مجد الكروم وشقيقاتها من البحر الى النهر ألقى بهم المحتلون الجدد خلف الحدود الجديدة عام 1948 مرة تلو المرة لكنهم تجاوزوا حدود الياس وعادوا من جديد مشيا عالأقدام لديارهم واثمروا جيلا بعد جيل وصار الواحد منهم خمسين مستحيل من اللد الى الجليل.
هي قصة عودة عادل مناع الطفل مع والديه عام 1950 على ظهر قارب صغير متهالك من صيدا الى شمال عكا خلسة وليلا والامواج المتلاطمة تضرب بالقارب مهددة بافتراسه كما يهددنا اليوم غول الجريمة. هي قصة اسرة تروي كل الرواية.. رواية شعب.
من وقتها بقي عادل وبقيت مجد الكروم رغم مجزرة ارتكبها فاتحو القرية الجدد عند عين البلدة. منذ 1948 تضاعفنا عشر مرات وبقينا فوق ترابنا وتغلبنا على الحرمان والفقر وسلب ما تبقى من ارض وعلى الحصار والحكم العسكري... وملانا الجامعات والمستشفيات معالجات وطبيبات واطباء وطلابا للعلم وللحياة المحترمة.
من عبر البحر لن يردعه مستنقع العنف حتى ترسو كل مراكبه في مياه الموانىء الصافية والامنة. هذا ممكن وبايدينا ان ادرنا اختلافاتنا وصنا وحدتنا واحتطنا على خطة سليمة حقيقية وكنا مستعدين لتسديد ثمنها بالكد والعمل والحكمة وبالأفلات من آسار الأفكار والادوات النضالية المعلبة بعلب من الحقبة العثمانية متكلسة انتهى تاريخ صلاحياتها.
هذه المظاهرة المهيبة ينبغي ان تبقى البداية لا النهاية كما اكد رئيس المتابعة العليا محمد بركة. كيف لا وهي حدث مؤسس في مسيرة احتجاجاتنا الخجولة حتى الان على استفحال العنف. هذه لحظة ثمينة من غير المعقول ان تفوتها القيادات.. لأنه إن أتتكم الهبة فخدوها... فإن اخذتها القيادة سنصعد سكة جديدة حيال قضية الجريمة والضغط على الحكومة حتى تبدا بتطبيق واجباتها الاساسية في مكافحتها وبحفظ الامان.. وحتى نبدا نحن ايضا بتحمل مسؤولياتنا الذاتية حيال استشراء العنف ومنها الالتفات اكثر للتربية في البيوت والمدارس وغيره..وهذا موضوع اخر الان.
عدت من عند أعتاب الجرمق وقلبي مطمئن اطمئنان هذاه القامة الجغرافية الأعلى بان الشباب اليوم قدها وقدود وبمقدورهم مواصلة رحلتنا الجبلية الصعبة حتى نصبح يوما ما نريد.
ومرة اخرى تحية لالاف النساء العربيات فتيات اليوم امهات الغد ممن لبسن السواد، شاركن بالمظاهرة وحملن الشعارات وهتفن في تنظيم و قيادة الاحتجاجات. اما الاف الشباب ممن شاركوا في يوم الغضب فلابد ان جبل حيدر الشامخ صار اغلى واعلى وهم يرددون على اطرافه باعتزاز " جليلنا مالك مثيل وترابك اغلى من الذهب".
[email protected]
أضف تعليق