(مونوتراجيديا لممثلة مقتولة)
وَجَد الرسالة : راضي د. شحادة
ليته لم يكن لديّ عائلة. عندها لن يكون لديّ أخ يقتلني وعمٌّ يحاسبني وخالٌ يزجرني. ليتني وُلدت على الطريقة الصينية حيث يُسمح بانجاب مولود واحد لكل ذكر وانثى، ومع مرور جيلين على هذا النحو تنتهي العائلة، فلا أخ ولا أخت ولا عم ولا خال، فلماذا ننجب منهم الكثيرين ثم نقوم بذبحهم حسب دستور شرف العائلة؟
أخي العزيز،
أحسدك يا ا اخي لأنك ذَكَر.. انت حر وتملك كامل الحرية، والحرية المطلقة، لأنك ذَكَر، علما بأنك لم تكن انت الذي قرر المجيء الى الحياة على شكل ذَكَر، ولو كان القرار قراري لقررت أن أولد ذكرًا مثلك. أريد أن أذكّرك أخي عن حقيقة علمية معروفة أن ّ المسبّب في ان يخرج المولود ذكرًا او أنثى هو الذكر وليس الأنثى، فالكروموزوم الذكري هو الذي يحمل بداخله صفات الذكر والأنثى، فإذا اتَّحد كروموزوم الذَّكر ذو الصفات الانثوية مع البويضة خرج المولود انثى، واذا اتحد كروموزوم الذَّكر الأنثوي مع البويضة خرج المولود ذَكرًا، فكيف أُعاقَب على كوني ولدت انثى وأنتَ ايها الذَّكر هو سبب كوني جئت الى الحياة على هذا النحو؟
لو كان القرار بيدي لقررت أنْ أُولَد ذكرًا مثلك. أنت أيّها الذَّكر الحُرّ الطليق، تخرج من البيت متى تشاء، تركب السيارة وعندما تكون لوحدك فيها تتمنى ان تلتقط فتاة جميلة في الطريق وتتجاهل الذكور المحتاجين ل"تْرِمب".
جسدك ملكك، واما أنا فَجَسدِي ملك القوانين الاجتماعية. شهواتي أُعدِمت قبل ان أُعدَم على قارعة الطريق وعلى الملأ على الطريقة السعودية "الحضارية".
أعرف كم من الوقت تقف يا أخي أمام المرآة لكي تستعرض نرجسيَّتك ورجولتك وجاذبيتك الذّكوريّة كي تخرج لجذب بنات جنسي اليك. تستطيع أن تمارس كل ما ترغب اذا واتتك الفرصة. الذكورة مسموحة علناً أمّا الأنوثة فعَيْبٌ وحرامٌ وعَورة.
هذا هو الجزء التحتاني الذي يتحول الى بقرة مقدسة ويجب ان يُستثنى كأنه غير موجود، مع اننا جميعا، ذكورا واناثا، خرجنا ونزلنا منه.
هذا هو الجزء التحتاني المليء بالدماء الشهرية كريهة الرائحة كرائحة جثّتي، وبمجاري أوساخ الجسم، هو ايضا منبع حياتنا وسر وجودنا، يتحوّل الى أعقد عُقَدِنا، يتحوَّل الى شرفٍ مقدسٍ تسقط من أجله حُوريات النِّيل ضحايا لكي ينعمَ النيل الذَّكر بصباياه الحور المقتولات خنقًا بثَقّالةِ حجر مربوطٍ الى أجسادهن، او تقطيعًا بالسّكاكين او رجمًا بالحجارة، او رميًا بالرصاص او شنقًا أو قطعًا للرؤوس.
لم تَعُد أخي يا أخي. كنت أختَك وألعب معك عندما كنا طفلين، وعندما كان جسدنا غير ناضج جنسيًا، بحكم قوانين الطبيعة والزمن، وليس بموجب قوانين البشر، والآن أصبحتُ عدوّتك اللدودة، وأصبحتَ قاتلي لأنّي حاولت أن أكون حرّة بعض الشيء.
أصبح جسدي ملكَكُم ومحَكّا لقوانينكم القاتلة.
ليتنا بقينا أطفالًا نلعب معًا يا أخي..ليتنا لم نكبر، فلو لم نكبر لما قتَلتَني.. يبدو اننا كلما كبرنا زادت خطايانا.. ومن لم يكن منكم بلا خطيئة فليرجمني بحجر او يقطّعني إرَباً إرَباً بسكاكينه، او يُخردقني بالرصاص او يشنقني او يدفنني حيّة.
قاتلي العزيز،
أعرف ان فرحتك آنيّة، وعندما تصحو الى ذنوبك وخطاياك ستسامحني، وستنظر الى عالمك الذي لا زلتَ فيه وأخرجتني منه، بمنظارٍ علمانيّ جديد وبصدر رحب وبتسامح، وستجد بعد قتلي أنّك لم تُكفِّر عن خطاياك بعد، بل إنّ قتلي سَيذَكِّرُك بالخشبات العالقة في عينيك، والتورّط يجرّ التوّرّط.
قررتَ قتلي عمدا وعلى رؤوس الأشهاد لأنهم علّموك بأنك وصيّ عليّ ولأنك تنفّذ إرادة الجماعة التي لا تريد أن تتعلم ما هي قيمة الفرد..الواحد..
هذه هي نتيجة التعبئة المستمرة وغسل الدماغ الجماعي اللذين شحنك بهما مجتمعنا المتحفّظ فأعمى بصيرتك وجعلك-وأنا ادرك مدى الطيبة التي في قلبك لأني أختك وأعرفك- تمسِك بسكينك وتطعنني قبل ان يتغلب عقلك على قلبك، وقبل أن تسمح لنفسك بمواجهتهم. وماذا سيكون مصيرك ومصير طيبتك بعد أن تكون السكين قد فعلت فعلها ودخلت القلب والأحشاء؟
إنّ هذا العَمى البصيري لا يقود الا الى المزيد من التورط والأسى والحسرة والندم والعذاب.
لقد سمحتَ لنفسك بتنفيذ حكم الإعدام فيّ والذي أصدروه بحقّي لأنّ قوانينهم ملوّنة فقط بالأسود والأبيض، كَلَوْنِ الأكفان والغَشوة والظُّلمة والجهالة، لأنهم لا يستطيعون أن يستوعبوا باقي الألوان، وبهذا الحكم زدتَ الطين بِلّة وبلاءً وبَلِيَّةً وبَلْوَةً، فهم يدّعون أنّ عائلتنا وبسببي أصبحت منبوذة، ونعتوها بعائلة الزِّنى والدّعارة والإباحية والفحشاء، عائلة تدوس على محرّمات المجتمع وقوانين الطائفية والقبلية والقداسة والطهارة، وكل ذلك بسببي انا.
آه، لو أنني لم أولد أنثى لبَقِيتْ عائلتُنا شريفة عفيفة طاهرة وبألف خير، وسالمة من عيون الحساد والهجّائين والحاقدين، ولو شتموا أختك وعرضَها لضحكتَ في وجوههم، ولما كنتَ بحاجة لاستعمال سكّينك لأنه لا أخت لديك.
وعندما تعبّأتَ جيدًا طعنتَني أمام الملأ، فأرديتني قتيلة، وبذلك اكتملت دائرة انقراض شرف عائلتنا. عائلتنا التي يُجرِم فيها الأخ بأخته، والزوج بزوجته، وعائلة الأنثى التي خرَجَتْ عن قوانين الجماعة.
أخي العزيز،
أنا الآن ميتة ومرتاحة من العذاب وكل حواسّي توقّفت عن العمل، لذلك، وبذلك ارتحت من كل مشاعر العذاب والندم والذنب والرذيلة. أمّا أنت فلا زلتَ شابًّا وطريق العذاب والآلام لا زالت طويلة أمامك، وستلازمك طوال ما تبقى لك من عمر طويل، في سجنك، في نومك، أثناء طعامك، أمام اولادك، وأمام المجتمع ذاته الذي قتلتَني من أجله.
كم هو صعب أن يقضي الإنسان بقيَّة عُمره في سجنِ نَدمِه وحَسرته، وهذا أصعب من سجنه الحقيقي، وهو متهم بأنه اتّخذ أصعب قرار في حياته، وهو أن يضع حدًّا لحياة غيره، وغيره جزء منه، أخته وابنة أبيه وأمّه، فكأنما القاتل هو المقتول ايضا.
أنا الآن مرتاحة لأنني فقدت جميع أحاسيسي وحواسّي لأنني ميتة، مقتولة، اما انت فلا محالة ستموت..كل البشر سيموتون لأن عمرهم محدود. كلهم سيموتون، واما أنت فإّك الى حين موتك ستكون أحاسيسك متعبة ومثقَلة بالسّواد والنّدم والشُّعور بالذّنب. وهل سهلٌ على الانسان أن يشعر طوال حياته بأنّه اقترفَ جريمةً وصورةُ مقتولِهِ رابضة في أعماق دماغه؟
من البشر من يستقبلون موتهم وهم مرتاحون، واما أنتَ فستستقبل موتك بعد رحلة عذاب لا نهائية، لأن غلطتك لن تُصَحّح، وأختك التي قتلتَها لن تعود الى الحياة مرة اخرى، لأن الإنسان يعيش حياة واحدة فقط.
أخي، هل تدرك ما معنى أنّ الإنسان الذي يموت لا يستطيع أن يعود مرة أخرى الى الحياة؟
إذا أدركتَ معنى هذه الحقيقة فإنك ستُدرك ما معنى أنّ يكون الإنسان مجرمًا. أنا اعرفك جيدا، فأنتَ لم تكن مجرما ولم تؤذِ احدا. أنت طيّب يا أخي، وكنت أعتبرك أقرب المقرّبين الى قلبي، ولكن، ما هذا السواد والغَباش الذي يغشى عينيك؟ أهي ذاتها تلك الغيمة السوداء الملعونة التي تحوم في ثنايا أدمغة مجتمعنا فتُعَبِّئه بالمفاهيم البالية والقوانين التي أدرك الانسان المتحضِّر المتمدِّن مدى خطورتها منذ مئات السنين؟
صدِّقني يا أخي، فالـمِيتة الطبيعية للانسان القاتل أصعب ألف مرة من ميتَتِه مقتولا قبل أوانه، وميتتُك حسب هذه القاعدة ستكون أصعب بكثير من ميتتي، ومن هذا المنطلق فأنا أشفق عليك.
ليتني أتقمّص في الصين وأجرّب ما معنى العيش بدون عائلة وحَمولة وقبيلة وفخذ وبطن وصِلَة أرحام، كي أنعم بحياة جديدة، فيها الدولة، اعظم دولة في العالم، يعيش فيها مليار وثلاثمائة مليون مخلوق بشري، وليس كما نحن هنا قبائل مشرذمة تتوجَّس الشرَّ لبعضها البعض، وتتحيّن الفرص للانتقام والثأر لشرف العائلة، وللدفاع عن عرضها "المقدّس"، بينما هي تتناذل أمام الدفاع عن أرضها ووطنها وهويتها.
ليتني لم أولَد.. فلماذا تنجبونني وتُسمِّنونني وتدلّلونني كي أصل الى مرحلة الذبح، ولكي أُصبح كبش العيد وبقرة اللحم، ولتَتَمتّعوا بطقس الفُرجة والتَفَرُّج على جثّتي المسكينة الملطخة بالدماء على قارعة الطريق، والكل مسرور ومقهقه من حولي لأنّ الصيد سمين ويشفي الغليل..
انا هو كبش فدائكم، ولكنني "كَبشة" منكم ومن صُنعِكم، واما انتم فعُميان البصيرة والبصر، ولا تستطيعون أنْ تشاهدوا الخشَبات التي في أعينكم قبل أن تحاولوا اقْتِلاعَ القَذى الذي في عيني، او قبل ان تفقأُوا عيني بخناجركم، وقبل أن تقطّعوني بسكاكينكم الحادة فتجهزون عليّ، وتجهّزونني لطعام عيدكم وفرحكم الدموي العظيم بموتي.
ضحكات انتصاركم المهزوم والزائف والـمَقيت عليّ بوضعكم حدًّا لحياتي الشابة تقتلني مرة أخرى، وهكذا أكون قد قُتلت مرتين.
اما أنتم ففرحتُكم فرحتان، أوّلًا لأنكم تخلّصتم منِّي، وثانيًا لأنّ قاتلي في نظركم هو بطل وشجاع وشهم وذائِدٌ عن العِرض والشرف، ويتحلَّى بأسمى آيات الشرف الشرقي العربي الأصيل، ويستأهل كل التقدير، ويستحق جائزة نوبل لأنبل النبلاء. إنّه ليس قاتلًا، بل إنّه مناضل أشْوَس صنديد يدافع عن شرف الأمّة، التي فقدت شرفها وكرامتها أصلا، من رجس النّساء والإناث اللواتي كيدهن عظيم. إنّه الأسد الجَسور، السّبع الـمَلك الـمُتسلِّط الحاكم الوَقور المتحكم بحياة البشر! إنّه الذَّكر!!؟؟
ليتني لم أولد أنثى...
ليتني ولدتُ ذَكَراً كي أجرّب معنى الحرية والجنس واللذة والـمَشروب والتّدخين والسّفر والسَّهر ومُعاشرة كل أنواع الإناث الجاهزات للمعاشرة، من غير قبيلتي وديني طبعًا، لأنّ مجتمعي سيرفض تصرفي الذَّكري الجامِح على مقرُبةٍ منه.
ليتني وُلدت خُنثى (نصف ذكر ونصف انثى) كي أمارس حقّي الانثوي في الخفاء، متخفية في جسد رجل ذكر.
ليتكم تصبحون تابعين لكل ما بعد "ليتني". ليت "ليتكم" و"ليتني" تصبح يومًا ما :"ليتنا".
تذييل: هذه الرسالة وجدت ملطّخة بدماء المقتولة، وكانت تنبّأتْ على ما يبدو بأن حياتها في خطر ولن تكتمل بالشكل الطبيعي، ومن خلال أسلوبها الشّائق والواعي وفلسفتها الخاصة للحياة، نستنتج أنّها كانت فتاة متعلّشمة واعية أكثر بكثير من الذكور والإناث الذين ساهموا في عملية إيقاف مجرى حياتها. وعندما عثرتُ على الرسالة اعتبرتُها وصيَّتَها التي كَلّفتني بِنشرها كي تكون عبرة لجميع البشر.
*راضي شحادة- مسرحيّ وكاتب وأديب من الجليل
[email protected]
أضف تعليق