الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ثم أما بعد :
عن النعمان بن بشير ، عن النبي ﷺ قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة،
فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا:
لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا
ونجوا جميعا ...
في سياق متصل بما أوردناه في المقال السابق عن الإعتلال السلوكي المعرفي للأفراد والجماعات ، وعن المزالق الأخلاقية
في الوعي الجمعي لمجتمعاتنا وعن الخطوب المدلهمة التي تتوالى تترا كالصواعق اللامتناهية ، سأضع بين يدي القارئ
صورة نمطية أخرى لواقع تعاملنا مع محيطنا المتهالك والآخذ في الغرق بوتيرة ثابتة إلى أن يقضي الله أمراً كان
مفعولاً .
ها هم أصحاب السفينة قد استهموا عليها أي اقترعوا فيما بينهم على من يركب ظهرها أو يسكن في باطنها ، ولما استقر
الحال بهم صارت الحاجة لمن هم في داخلها إلى الصعود المتكرر على ظهرها ليستقوا الماء ، وسرعان ما شكل ذلك
حرجاً لهم ، فحاولوا جاهدين إيجاد مخرج عملي يرفع عنهم الحرج وكثرة السؤال وكذالك نيل الإستقلال اللوجستي
وحرية القرار الاستراتيجي وتحديد المصير ، وبذلك فقد اقترح بعضهم بأن يخرقوا السفينة من باطنها ليحصلوا على
حصتهم من الماء دون الإرتهان لقرار من هم فوقهم ، ولم يدركوا أنهم بفعلتهم هذه سيغرقوا السفينة بمن فيها ،
وهنا يبقى القرار بيد من سواهم من العقلاء ، أنتركهم يخرقوا السفينة ليشربوا ونهلك ويهلكون ؟
أم نأخذ على أيديهم ونمنعهم فنستدرك الكارثة قبل وقوعها ؟
نعم ، هذا هو السيناريو الحالي والمستقبلي لأي كيان قائم سواء الدول والمجتمعات أو الأقليات الدينية والعرقية أو القبلية .
وإذا أردنا إسقاطاً على الواقع ، فأصحاب السفينة بمجملهم هم السواد الأكبر لكل مجتمع ، على اختلاف مستوياتهم
العلمية والثقافية ، فهم الساسة والقادة والمفكرون والأدباء والكتاب والعلماء والمنظرون والقضاة والصحفيون
والمشايخ وأهل الحل والعقد وممن سواهم من النخب المتعددة وصولا إلى عوام الناس ، أما القلة القليلة الشاذة عن النسق
العام للثوابت والأصول فأولئك الذين أرادوا أخذ زمام الأمور والمبادرة وفقاً لمعاييرهم المختلة ومنافعهم الضيقة ومصالحهم
الشخصية ، وهنا تُمتحن المجتمعات في صميم جذورها التاريخية ومعتقداتها وثوابتها الدينية والعُرفية ، وتُختبرُ في حقيقة
أواصرها الثقافية وروابطها المجتمعية وعلاقاتها التكافلية فيما بينها ، وعليه فإنها أي المجتمعات ستصطدم بخيارين
لا ثالث لهما ، إما الخضوع والتسليم لشرذمة من السفهاء أوالمارقين أوالمجرمين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ،
والذين لا تأخذهم رحمة ولا رأفة في العباد ، بل ولا يعيرون لدين أو عرف أو عادات أوتقاليد أقل اهتمام ,
بل ولا يخضعون لأي معايير أو قوانين مجتمعية بل وحتى إنسانية تستطيع عبرها التواصل معهم ، فهم إما
مرتزقة شُطّارٌ مجرمون رعاع من الناس وحثالة البشر مهمشون ثقافياً منبوذون اجتماعياً ، يحاول أكثرهم فرض سيطرته
ونفوذه بالعربدة وبقوة السلاح وبترويع الأمنين ، أو قلة من متسولي الأفكار المُنحلّة والتصورات الشاذة على موائد الغرب
المتحرر من قيود الأخلاق والاعراف ، والمتعطشون للفسق والفحش والخلاعة والمجون ، فتستحيل المجتمعات مراتع
للجريمة المنظمة بألوانها وأشكالها المختلفة وأوكار للخمور والدعارة ، ثم يقع العقاب الإلهى المحتوم والذي
وعد به رب العباد بقوله :
( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ... ولا يقتصر التدمير هنا
على الهلاك الفعلي وإزهاق الأرواح وهو احتمال وارد وكبير ، فهنالك تدمير أكبر وأشد من ذلك ألا وهو تدمير البنية
الأخلاقية وتآكل الروابط الاجتماعية والتفكك الأسري والتشرذم والتفتت والضياع والتناحر والتقاتل وغيرها من صور
الهلاك العام ، فتمسي هذه المجتمعات غير قابلة للعيش فيها ، وهذا يذكرني بقصة الأسد والكلب والحمار :
يحكي أن كلبَ صيدٍ أوقع أسداً في الأسر ، وبينما هو كذلك إذ بحمار يمر على الأسد المربوط ، فيقول له الأسد :
أتفك قيدي وتحررني وأعطيك نصف ملكي ؟ ففكر الحمار واستنتج بأنها صفقة العمر ولا ينبغي له بأن يضيعها ،
فهرول إلى الأسد وفك قيده ، فقال له الأسد : الآن وبما أنك قد أوفيت بما طلبت منك فإني سأعطيك كل ملكي وليس
نصفه ، فاستغرب الحمار من كرم الأسد وسأله عن السبب فقال الأسد : إن البلد التي يربط فيها كلب ويحل فيها حمار
لا يمكن لأسد أن يعيش فيها !!!
أما عن الخيار الثاني للمهتمين بالشأن العام من الحريصين على نهضة مجتمعاتهم والغيورين على دينهم وعلى موروثهم
الحضاري والثقافي فأقول : اننا لا نملك الكثير من الخيارات ، بل هو خيار واحد بأساليب وطرق محتلفة تصب في
نهايتها في المصلحة العامة ، ما علينا القيام به عاجلا غير آجل بل واليوم قبل الغد هو الإمساك بزمام المبادرة
لوضع الأمور في نصابها الصحيح ، بحيث يخلع كل واحد منا ثوب السلبية المستشرية والأنانية السائدة وليقم كل واحد
بالدور المنوط به في الارتقاء والنهضة ، بداية بالتربية النفسية والتزكية الأخلاقية ونشر الفضيلة وبالتوبة والأوبة
والعودة إلى التعاليم السماوية المباركة ، ثم تنقل هذه السلوك بالتواتر العملي وبالتربية بالقدوة إلى أبنائنا ، وهذا أقل الواجب
وأضعف الإيمن ، فتغيير المنكر باليد هو أعلى إستطاعة ثم بالنصيحة واللسان وبالأمر بالمعروف والنهي عن الفواحش
والمنكرات ، وأقلها إنكار المنكر في القلب وبغضه والابتعاد عنه ونبذ فاعله ، وذلك لأننا غير محصنين من المخاطر
وغير بعيدين عن الاحتكاك بأولئك الشرذمة من القوم ، فالفواحش والمنكرات والجرائم كالسرطان الخبيث ، سرعان
ما يستشري وينتشر ووقتها لن يكون أحد بمنأى عن الخطر ، فلا يلومن أحد إلا نفسه .
وأخيراً أقول : لا بد لنا من اختيار نخبتنا السياسية والدينية بما يرضي ربنا وبما ينفع البلاد والعباد وعلى أساس الكفائة
والمهنية والورع والصلاح وليس على أسأس الإنتمائات العائلية والقبلية والمنافع الشخصية ، فأولئك هم أهل الحل
والعقد وعلى عاتقهم تقع كامل المسؤولية في سياسة الناس وتوجيههم وخدمتهم .
هذا جهد المُقل والله من وراء القصد ولا تبخلوا بالدعاء لنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[email protected]
أضف تعليق