يحتل الجدل حول التطبيع مساحة متزايدة في الاهتمامات العامة على تنوعها واختلافها.
هناك، بلا شك، مؤشرات لتحول متفاوت تجاه موضوع العلاقة بين دول عربية مع دولة الاحتلال. وتتفاوت مؤشرات ذلك في مستواها ودرجتها، وتختلف في مجالاتها وتعبيراتها واحتمالاتها، وفي درجة الاستعداد للسير فيها، وفي مداها بين دولة اخرى.
ساعد على وجود هذه المؤشرات أكثر من عامل:
أولها، اتفاق كامب ديفيد، ومنها ارتدادات ثورات الربيع، وازدهار الإرهاب، ومنها التركيز على الخطر الإيراني وأولويته.
ودون نسيان اتفاق أوسلو.
تبقى هذه المؤشرات رسمية او شبه رسمية، لكن ذلك لا يلغي وجود بعض الحالات المحدودة لكن المتزايدة، يقوم بها افراد لا يحملون صفة رسمية وان كانت تتم على مرأى من حكوماتهم، ودونما محاسبة.
الموقف الشعبي العربي العام في هذا الجدل، ومعه غالبية القوى السياسية والشعبية يقوم في الأغلب الأعم، على قاعدة الرفض المبدئي للتطبيع ومؤشراته والرؤية الواضحة لآثاره ومخاطره، وعلى انعدام الثقة تماما بأهداف ومرامي دولة الاحتلال وداعميها.
يلتقي مع هذا الموقف الشعبي دول عربية.
هذا الموقف لا يلغي وجود أصوات قليلة جدا بين أصحاب الرأي وأصحاب المصالح والاستثمار وبعض الإعلاميين لا ترى رأي الأغلبية الشعبية وتتجاوب مع مؤشرات التطبيع، بل يمكن ان تدافع عن صحتها وفوائدها وربما، عن ضرورتها.
واذا كان المعنى الموضوعي المجرد لـ "التطبيع" يختص بالأصل والاساس بالعلاقة بين الناس والمجتمعات، فإن التطبيع الذي يدور حوله الجدل بمؤشراته الحاصلة حتى الآن، لا علاقة له بهذا المعنى، ولا يتجه لتحقيقه ولا هو معنى بذلك.
ما يدور حوله الجدل يقتصر على مؤشرات التطبيع بين دول وأنظمة وأجهزتها، اضافة الى التزامات او اشتراطات تفرضها بعض أشكال العمل الدولي وضروراته.
عن هذا الجدل يمكن ابداء ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى، ان الجانب العربي في معظم مؤشرات التطبيع الحاصلة، يحرص على التأكيد انها لا تمس القضية الوطنية الفلسطينية، ويحرص على ربط مؤشرات التطبيع بتأكيدات على ثبات موقفه المبدئي من القضية الوطنية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وتأييد نضاله لنيل هذه الحقوق، بالذات إنهاء الاحتلال والعودة وإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس.
أما عن الجدية وراء هذا الربط والوصول به الى درجة الاشتراط الثابت والصلب، فهذه تبقى في خبايا النفس والضمائر ولن يكشفها الا المواقف العملية تجاه موضوعات وسياسات وطلبات تمس فعلاً بالقضية الوطنية الفلسطينية.
بشكل عام فإن حظوظ تطور مؤشرات التطبيع في التحقق بشكل تطبيع كامل محدودة جداً، ان لم تكن معدومة. وهي في أحسن الأحوال تحتاج لكي تتحقق الى الكثير من الوقت والكثير من المتغيرات المتراكمة، والى وضع إقليمي متقبل.
إن أي رؤية تتبناها دولة الاحتلال - او أي طرف آخر- للتطبيع مع دول عربية تقفز فوق الأولوية المطلقة لاتفاق مسبق مع الفلسطينيين يعيد لهم حقوقهم ويحقق مطالبهم، هي رؤية خيالية محكوم عليها بالفشل وغير قابلة للتحقق.
الملاحظة الثانية، ان حال الضعف العام الذي تعيشه الحركة الشعبية العربية، باختلاف تعبيراتها ومناطقها: في دورها وفعلها وتأثيرها، وفي حيويتها ومبادراتها، وفي دعمها القضية الوطنية الفلسطينية ونضال شعبها بشكل خاص، هو حال يصب في صالح مؤشرات التطبيع لكن لا يجب البناء على هذا الحال، فهو ليس قدراً محتوماً، ولا هو سرمدي الدوام.
وأحدث مؤشر يؤكد ذلك، الهبة الشعبية الواسعة التي شهدتها عواصم ومدن بلاد عربية كثيرة نصرة للفلسطينيين ومشاركة لهم في هبتهم ضد صفقة القرن ومقدماتها.
الملاحظة الثالثة، إن الحال القريب من الإحباط الذي تعيشه الناس عموماً، بسبب تردي الوضع العربي العام، تجعلها أكثر استعداداً لتقبل معظم الأخبار حول تقدم مسار التطبيع ومؤشراته، وإعادة نشرها دونما تمحيص في منطقيتها ودقتها وظروفها وتوقيتها، ودون التدقيق بمصدرها والأهداف والمقاصد التي غالباً ما تكون وراء إطلاقها.
هذه الحالة تقدم لدولة الاحتلال وأجهزتها المتخصصة فرصاً مواتية للتركيز على أخبار منشورة يتم انتقاؤها والإضاءة عليها والترويج لها حسب الطلب والحاجة ويشجعها أيضاً، على "التصنيع المحلي" لأخبار حسب حاجتها وطلب أجهزتها، ثم ضخها بشكل مدروس وموجه وبما تحتاجه من تضخيم وتوجيه، وما قد تحتاجه من شرح وتحليل تدعو للقيام به خبراء ومحللين منتقين بعناية.
وفي الحالتين فإن الهدف هو التأثير على الحالة الجماهيرية - الفلسطينية منها بالذات - لمحاولة النيل من تماسكها وصلابة موقفها وإصرارها على حقوقها ومطالبها. وهذه الأجهزة المتخصصة تحاول، في نفس السياق ولنفس الهدف، استغلال أي نقطة ضعف في الصف الوطني (الانقسام) وتجييرها لخدمة هدفها.
وتبرز في هذا المجال، الجرأة الاستثنائية لـ "نتنياهو" في مسعاه لتقديم نفسه بطلاً للتطبيع.
لكنهم في كل ذلك لا يحصدون الا الفشل.
[email protected]
أضف تعليق