تحل هذا الأسبوع الذكرى السنوية الـ 67 لقيام ثورة 23 يوليو الخالدة، التي قادها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، على رأس تنظيم الضباط الأحرار عام 1952 ووضعت حدا للحكم الملكي الفاسد والعميل للاستعمار الإنجليزي في وقته، وجاءت بالنظام الجمهوري الذي اهتم بتحقيق مطالب واحتياجات الشعب اليومية. وتتزامن هذه الذكرى مع الذكرى السنوية التسعين لميلاد المطرب المصري عبد الحليم حافظ، الذي جاء ميلاده الفني، بل ثورته الفنية، مع ثورة 23 يوليو، فارتبط عبد الحليم ارتباطا وثيقا بهذه الثورة وقائدها، الى حد أن ذهب عبد الناصر نفسه الى اعتباره " نتاج ثورة يوليو وصوت الثورة ومطرب الثورة". (1)
بل ذهب البعض الآخر أبعد من ذلك واعتبر عبد الحليم لسان حال الثورة وناشر رسالتها بين الناس، بصوته وأغانيه الوطنية المعروفة. وفي هذا يقول الناقد الفني الكبير، إبراهيم العريس: "وعبد الحليم حافظ كان ينطق بما تختزنه أفئدة الملايين حين كان ينشد "ناصر كلنا بنحبك" و" يا جمال يا حبيب الملايين". وعبد الحليم ساهم، بقسط من تلك العلاقة القلبية التي قامت بين الجماهير (من المحيط الى الخليج)، وبين البطل الراحل جمال عبد الناصر. وهذا ما جعل اسم عبد الحليم يرتبط بعبد الناصر وثورة تموز، ويشكل الجانب العاطفي الحنون من تلك العلاقة." (2)
وفي ظل التقاء المناسبتين معا، سأتوقف عند العلاقة الخاصة التي ربطت بين القائد السياسي والقائد الفني، اللذين غيرا وجه مصر وقادا ثورة كل في مجاله. يوجز سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر، علاقة عبد الناصر بعبد الحليم بالكلمات التالية: " كان يحب – جمال عبد الناصر، ز. ش- عبد الحليم حافظ ويعتبره ابنا له". (3)
وعن هذه العلاقة الأبوية يشهد المحامي مجدي العمروسي، صديق عبد الحليم وشريكه في شركة "صوت الفن"، فيروي في برنامج تلفزيوني (أعز الناس، الحلقة 15) أنه في احدى الحفلات، أصيب عبد الحليم بالنزيف الثالث على المسرح، وعلم عبد الناصر بذلك، وعلى العشاء بحضور أم كلثوم وعبد الوهاب، توجه عبد الناصر إلى عبد الحليم قائلا: شكلك مش عاجبني، لازم تسافر لطبيب مختص في أمريكا. وطلب من عبد الحكيم عامر أن يقوم الملحق العسكري المصري في أمريكا، بمرافقة عبد الحليم للطبيب واخباره أن عبد الناصر أرسله اليه، لأنه سبق وزاره في مصر. وفعلا سافرنا الى نيويورك، وهناك وجدنا الملحق العسكري ومعه 10 آلاف دولار وقال سنسافر بعد يومين للدكتور، وسافرنا الى ولاية مساشوستس. ولما حاول عبد الحليم التمرد على أوامر الطبيب، أخبرنا الملحق العسكري ان عليه ان ينصاع للطبيب، وهدده بارسال رسالة لعبد الناصر يخبره فيها أن عبد الحليم يرفض العلاج. فضغطت على عبد الحليم ودخل المستشفى وابتدأ الفحوصات من الصفر. ويؤكد عبد الحليم في مذكراته، أن عبد الناصر كان دائم السؤال عنه وعن صحته، ويخاطبه قائلا " يا حليم.. عامل ايه يا حليم.. ان شالله تكون مبسوط يا حليم وصحتك كويسة".
ويروي عبد الحليم، حادثة أخرى في مذكراته لايريس نظمي، بأنه لم يشارك في حفل الثورة في العام التالي لخلافه مع أم كلثوم، وانتبه عبد الناصر الى غيابه، وعرف المشكلة، فاتصل الرئيس بعبد الحليم طالبا منه المشاركة في حفل الثورة في الإسكندرية بعد ثلاثة أيام، وفعلا شارك عبد الحليم وحرص الرئيس على حضور الحفل، ويروي حليم " شعوري بالإهانة زال باصرار الرئيس جمال عبد الناصر على اشتراكي في حفل الإسكندرية وبحضوره الحفل، وبقائه فوق مقعده حتى لحظة انتهائي من الغناء. كان ذلك أكبر تكريم لي، ولو لم يحدث ذلك لظللت أتألم سنوات طويلة من هذه الإهانة التي لحقت بي دون ذنب مني". (4)
ويقدم الإعلامي المصري المعروف، محمد وجدي قنديل رواية أخرى تدل على محبة عبد الناصر لعبد الحليم، واهتمامه به وحرصه عليه كثروة قومية، فيقول قنديل " فوجيء عبد الحليم بجرس التليفون وكان الصوت يقول: أنا جمال عبد الناصر.. وارتبك ولم يصدق أذنه، وقال له الرئيس: يا عبد الحليم متاعبك في الإذاعة سوف تنتهي، وأنا سمعت أنك متضايق لإن أغانيك مش بتتذاع كتير، وأنا لا أرضى عن ذلك، لأنك ثروة قومية."
ولأن عبد الحليم وفيّ وصادق، فقد كتب كلمات في رثاء للزعيم جمال عبد الناصر، بناء على طلب مجلة "روز اليوسف" المصرية، تدل على عمق العلاقة بينهما: "يا زعيمنا العظيم بعد أن استرجعت أنفاسى، من هول صدمة رحيلك عنا، طلبت منى جهة ما أن أكتب عنك، وأنا لم أتعود أن أكتب عنك بل تعودت أن أكتب لك، كنت أكتب لك حينما كنت أرى أن هناك سدودا توضع فى طريق جيل الفنانين، الذى تربى على مبادئك وشرب منها وآمن وعمل بها، وكنت يا زعيمنا العظيم تشير إلى كيف نتخطى هذه السدود دون أن نصاب بجرح ولو بسيط، ودون أن نصيب أيضا أحدا ممن يقومون بوضع هذه السدود فى طريق تقدم جيلك من الفنانين، وكنت تقول هذا هو صراع الحياة.. لا تخافوا.. تقدموا.. وقدموا كل ما عندكم من فن".
تلك عينات قليلة عن العلاقة المتينة التي ربطت بين عبد الناصر الزعيم وعبد الحليم الفنان، فالحديث عن هذا الموضوع يحتاج الى صفحات نظرا لغناه وعمقه، ورغم وضوح تلك العلاقة إلا أن هناك من يطعن في اخلاص عبد الحليم بجرة قلم، ويدعي بأن عبد الحليم تخلى عن قناعاته بالناصرية وتراثه ليغني للسادات الذي عادى الناصرية، وهذه مسألة تحتاج لمعالجة مستقلة لما يعتورها من اعتبارات وتناقضات، أما اذا قصد أحدهم التصيد بمياه عبد الحليم الصافية، فنذكره أن السادات نفسه كان نائبا للرئيس عبد الناصر، وأقسم أن يسير على طريقه وبناء عليه تم اختياره خلفا لعبد الناصر، وعندما قاد حرب أكتوبر كان ينفذ خطة عبد الناصر، ونذكره أيضا أن عبد الحليم لم يذكر السادات في اغنية "عاش"، وتوقف عن الغناء الوطني بعد حرب أكتوبر وفي هذا رسالة سياسية واضحة، ونذكره أيضا أن عبد الحليم حرص على أن يقدم اغنية " أحلف بسماها"، بعد النكسة في كل حفل له حتى تحقيق النصر. وفي عام 1971 في حفل له في العاصمة السورية طلب من الجمهور، أن يقف دقيقة حداد على روح الزعيم، معلنا أنه في شرفة قصر الضيافة في دمشق قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: لن تغيب الشمس عن الأرض العربية، ومن هذه العبارة ولدت الأغنية. فأين يكون التراجع والانقلاب على عبد الناصر، وما أظن الأمر إلا وهما يعشش في أذهان بعض الحاقدين والجاهلين.
وأبلغ رد على من يروج لكلام غير مسؤول كهذا، هو ما جاء على لسان وفكر عبد الحليم، فى ختام رثائه لناصر، المذكور أعلاه، قال عبد الحليم " إننى يا سيدى الرئيس الحبيب يا أغلى ما فى الحياة بمصر والعروبة والشرف، إننى سأحمل مبادئك على صوتى، أرددها مدى وجودى فى كل مكان فى العالم، كما كنت أفعل دوما، فأنت باق فى نبضى وكيانى ودمى، أنت وكل مبادئك العظيمة الخالدة.. رحم الله روحك الطاهرة وأعان الله مصر والعرب".
• إشارات
1) يوسف القعيد – عبد الناصر والمثقفون والثقافة، دار الشروق، القاهرة 2003، ص282
2) ابراهيم العريس - الكتابة في الزمن المتغير، دار الطليعة، بيروت، 1979، ص 164
3) عبد الله إمام – عبد الناصر كيف حكم مصر؟ مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص 303
4) ايريس نظمي – مذكرات عبد الحليم حافظ، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1977، ص 119-120
[email protected]
أضف تعليق