يبدو أن وعي رجالات الإدارة الأميركية المزيف تجاوز كل خطوطه الحمر؛ إذ إن تصريحات غرينبلات وبقية فتية ترامب والمراهقين السياسيين حوله تكشف عن خداع وتضليل لا سابق له، الأمر الذي يتطلب إعادة إحضار النكبة الجريمة الكبرى التي تشير إليها إلى النقاش. والأمر ليس مرهوناً بالموقف الفلسطيني أو ما يقصده هؤلاء من وراء تصريحاتهم وما يتسببه هذا من إنكار للحق الفلسطيني، بل تجاوز ذلك وبات يمس القانون الدولي وشريعة حقوق الإنسان. إن السعي لتبرئة الاحتلال وتقديمه بوصفه فعلاً نبيلاً بالتأكيد ليس إلا كسراً لكل المحرمات في القانون الدولي واستخفافاً بكل الشرائع. إن ما تسعى له هذه التصريحات ليس تقديم إسرائيل على أنها ضحية فيما وجودها قائم على مشروع استعماري، وهي بالتالي احتلال بحد ذاته، بل إلى إدانة الغير.
بعبارة أخرى تقديم الضحية بوصفه الجاني وإخراج الجاني الحقيقي من دائرة الاتهام. بل إن إسرائيل لم تكن يوماً متهمة في المنظور الأميركي. وحين مراجعة جميع المواقف الأميركية من الصراع منذ الدعم الصهيوأميركي لوجود إسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني قبل النكبة حتى اللحظة، نكتشف عمق هذا التضليل والتزييف في الوعي الساذج للساسة بواشنطن. والأخطر أن الأمر يصل حد التطاول على الآخرين. يحدث في السياسة أن تتبنى مواقف لصالح طرف محدد في صراع مركب، لكن أن يصل بك الأمر إلى التهجم على الطرف الثاني ومحاولة المساس به فبذلك تخرج عن نطاق المواقف التقليدية للدول ومعالجاتها للصراعات وتبنيها للمواقف بشأنها.
ما يحدث في الحالة الأميركية هو أن ثمة من قرر أن يعتدي على حقوق الشعب الفلسطيني، ليس من خلال دعم انتهاكها وسرقتها، بل من خلال التشكيك فيها وتبرئة القتلة من دم الضحية، والقول بتلوث يدي الضحية. إن هذا الاعتداء الصارخ على الشعب الفلسطيني الذي تمارسه إدارة ترامب وفتيانه، الذين يجهلون أبجديات السياسة الدولية ولا يعرفون المناطق التي يعملون فيها، ليعكس حجم النية المبيتة التي يحملها الرجل الذي أثار من الأزمات الداخلية والخارجية ما يفوق عدد أيامه في الحكم، وعزز عزلة أميركا في مقابل العالم، واختلق لها مشاكل في اتجاهات الأرض الأربعة. إن المساس بالحقوق الفلسطينية بحاجة لإعادة فحص كونه يشكل جريمة ربما يمكن الذهاب بها إلى المحاكم الدولية؛ لأن ما يتفوه به غرينبلات ورفاقه من المؤكد أنه يشكل بجانب كونه جريمة أخلاقية جريمة حقوقية لا بد من إيجاد سند في النصوص للذهاب بها إلى المحاكم. إن معاداة الشعب الفلسطيني والموافقة على التطهير العرقي الذي حدث بحقه أيام النكبة يجب أن يتم ترفعيه إلى مستوى الجريمة. وهذا يتطلب جهداً فلسطينياً مركباً من أجل استصدار القرارات الأممية المتعلقة بذلك؛ لأن من يؤيد ما جرى خلال النكبة من قتل وبقر وترحيل وتطهير لا بد أن يدان بوصفه مؤيداً لجريمة ضد الإنسانية. وربما يجب إعادة التفكير في توصيف ما جري خلال ذلك العام (1948) فلسطينياً وعدم الاكتفاء بتوصيفه بالنكبة، بل يجب أن نقول للعالم: إن عليه أن يعيد توصيف ما جرى بوصفه جريمة ضد الإنسانية حتى وإن نتج عنه وجود دولة باتت؛ بفعل الاختلال في موازين القوة في العالم وتوزيع الأعضاء في المنظمة الدولية عضواً في الأخيرة. فتلك الدولة وجدت بعد أن أبادت مجتمعاً بأكمله وحولته إلى مقابر بلا شواهد أو لاجئين مشتيين في نواحي الأرض الأربع، وعليه فإن وجودها والاعتراف بها لا يعني بأي حال غفران تلك الجرائم ونسيانها. وهذه لا بد أن تكون مهمة أساسية أمامنا كفلسطينيين والمتمثلة بإعادة فتح ملف ما جري خلال النكبة أمام المحاكم الدولية؛ حتى لا يأتي من يدافع عن القاتل ويتهم القتيل.
يبدو هذا مهماً؛ لأن أشياء كثيرة ترتبط به بعد ذلك، منها تجريم من يدافع عما جرى. النكبة لم تكن فعلاً عادياً وإن حاولت الصهيونية تصويره على أنه حادث وحرب عادية. لاحظ كيف يتم تقديم الأمر في السرديات الصهيونية بوصفه حرب "استقلال"، وفي أسوأ الحالات عدواناً من الدول العربية على الدولة التي وجدت من الفراغ. ولا يتم الإشارة إلى ما قبل لحظة الاشتباك العربي مع العصابات الصهيونية نتيجة جرائم الأخيرة بحق المواطنين العزل. والنكبة لم تكن مجرد جرائم عادية، بل إن حجم الأهوال التي عانى منها الشعب الفلسطيني نتيجة ذلك تفوق الكثير مما تم توصيفه وإدانته في القانون الدولي على أنه جرائم حرب.
قد يبدو هذا صعباً ولا بد أنه يحتاج للكثير من الجهد والعمل وسيواجه بالكثير من العقبات، خاصة أن موازين القوى في المجتمع الدولي ما زالت تعاني من نفس الاعتلال الذي عانت منه حين تم سرقة فلسطين. ومع هذا فليس من سبيل لترك ما جرى والتعامل معه كأنه أحد معطيات التاريخ. هناك الكثير الذي يجب فعله من أجل منع تكرار الجريمة إلى حين وقفها بشكل كامل، وهناك الكثير من الأدلة التي يجب أن يقف من ارتكبها - حتى إن كان قد مات - أمام محكمة التاريخ. دائماً ثمة حكمة في محاكمة الماضي؛ لأن تصرفات البشر ليست إلا نتاجاً لتلك الخبرات التي تعتمل في لاوعيهم.
وبكلمة أخيرة، فقد يبدو من المفيد الذهاب قليلاً في مثل هذه المراجعات للوعي العالمي من خلال محاكمة ما جرى؛ حتى يتم تجريم من يتطاول على حقوق الضحايا. ليس أبشع من الجريمة إلا تمجيدها. وما فعله ويفعله فتية ترامب يقع في باب مديح القتل والاغتصاب والإجرام، لذا يجب عدم الصراخ فقط في وجوههم، بل تجب محاكمتهم. وهذا لا يتم إلا من خلال تجريم ما جري قبل واحد وسبعين عاماً ونيف، حين تم ذبح الحق بدم بارد. النكبة كواحدة من السرديات المهمة في تاريخنا، والتي لا يمكن الحديث عن واقعنا من دون الإشارة إليها، بحاجة لإعادة تفكير وتثوير في الوعي العالمي.
[email protected]
أضف تعليق