لا توجد مسألة أكثر تعقيداً من مسألة العلاقة «الجديدة» بين الدين والسياسة في الغرب، وما أفضت إليه العولمة من تحولات كبيرة على صعيد هذه العلاقة.
ومن هذه الزاوية تحديداً يبدو علم الاجتماع السياسي أمام تحديات «نظرية» ما زال سَبْرُ أغوارها متعذراً في بعض النواحي، ومتعثّراً تماماً في مساحات كبيرة من الخريطة الاجتماعية في هذا الغرب.
وفي الولايات المتحدة تتمظهر هذه العلاقة بصورة أكثر وضوحاً من بقية بلدان الغرب الرأسمالي لأسباب تاريخية، وسياقات سياسية خاصة بما في ذلك بعض السياقات الدستورية والقانونية.
كرس الانتصار «التاريخي» للديمقراطية والعلمانية ـ في تشابكهما وتداخلهما الملموس ـ النظرة الليبرالية والحداثية حول الدين باعتباره شأناً فردياً أو علاقة فردية.
لكن هذه العلاقة تحولت في السنوات الأخيرة وحتى على مدى عقدين أو ثلاثة عقود مضت إلى علاقة تنزع نحو التسلل إلى مواقع المؤسساتية، والتموضع الساكن في البداية ثم المتحرك والنشط وحتى التماهي مع هذه المؤسسات في الواقع القائم في الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
لقد بُني بالفعل نسق متكامل من المؤسسات الفاعلة اجتماعياً تدين بالتبعية والولاء للفضاء الديني، وتعمل تحت إشرافه المباشر، وتوجيهاته الخاصة، بما في ذلك، وربما على رأس ذلك التوجهات السياسية.
وفي هذا الإطار بالذات أقحمت «المؤسسات الدينية» المنظمة في الانتخابات وتحولت أكثر من أي وقت مضى إلى منطقة صراع ونفوذ وفوز وهزيمة لهذا التيار أو ذاك بهذه الدرجة أو تلك.
فقط للتذكير فإن هذه العملية (عملية دخول الدين حلبة الاعتراك السياسي) في منطقتنا كانت سافرة وفجّة ومفضوحة، وترافقت مع موجات من العدوانية والعنف وحتى التوحش.
وبالعودة إلى الخصوصية الأميركية على هذا الصعيد فإن بعض الحقائق تساعد في فهم هذا الشأن، وتفهمه، والوقوف على حقيقة الأبعاد التي ينطوي عليها.
تشير المعطيات الى أن المواطنين الأميركيين هم الأكثر تديناً من بين كل الديمقراطيات الغربية. أكثر من 90% من الأميركيين يعلنون إيمانهم بالله. لكن الأهم هنا أن 70% من هؤلاء هم «أعضاء» إما في كنيسة أو في كنيس يهودي.
القانون الأميركي يكفل حرية التديّن، والدول لا يمكنها منع مأسسة هذا التدين، ما يعني أن العلاقة هنا تجري في صالح اتجاه ونزعة دائمة نحو التسلل إلى مؤسسات القرار السياسي.
العولمة والإعلام المعولم ساعد في إحداث تحولات نوعية على هذا الصعيد في الولايات المتحدة، ومكن (اليمين المسيحي الجديد) من أن يحتل مكانة متقدمة في الحياة السياسية الأميركية.
ولهذا فإن الغالبية الساحقة من الشخصيات العامة المحيطة بالرئيس ترامب اليوم هي جزء ونتاج لسطوة وقوة الإنجيليين في البيت الأبيض. لقد تحول الدين إلى فاعل اجتماعي نشط، وتحولت (الخدمات الاجتماعية) إلى معول بناء مؤسساتي أصبح الناتج السياسي لها مالياً ومؤثراً.
أكثر من 50% من هؤلاء يؤمنون بـ «أرض إسرائيل الكاملة»، وهم حلفاء طبيعيون لليمين الديني والقومي في إسرائيل. ولذلك كله فإن ترامب يراهن عليهم، وعلى هذه العلاقة التي تربطهم بإسرائيل و»أرض إسرائيل الكاملة» للنجاح في الانتخابات الأميركية القادمة.
لكن ما علاقة ذلك بالعنصرية، ولماذا يصرّ الرئيس الأميركي على أن يظهر هذه الفجاجة من العنصرية؟
الواقع أن «العنصرية» في أحد مظاهرها المكشوفة والسافرة هي مكوّن من الناحية الشكلية ومفضوح وظاهر و»معلن» من الناحية الجوهرية في فكر وممارسة قطاعات كبيرة من المسيحية الجديدة في الولايات المتحدة.
والواقع، أيضاً، أن هذه العنصرية هي جزء مكون من فكر وممارسة اليمين الديني والقومي في إسرائيل.
التحشيد الشعبوي للانتخابات القادمة في الولايات المتحدة لا بد وبالضرورة أن «ينسجم» مع نفسه، وأن يكون «وفيّاً» لكامل المنظومة الأيديولوجية التي تحكم هذا الإطار وهذا الواقع وهذه الخريطة الاجتماعية.
عندما نقارن اليوم منظومة القوانين التي أقرتها الكنيست والتي تنطوي على أعلى درجات العنصرية ضد الفلسطينيين في الداخل والممارسات الهائجة ضد اليهود من أصول أثيوبية مع تصريحات الرئيس ترامب للبرلمانيات الأميركيات من أصول شرق أوسطية وأفريقية، والنوايا والمخططات التي باتت على الأبواب لترحيل ملايين «الأجانب» من الولايات المتحدة، وعندما نراقب تحالف الجزء غير اليسير من وسائل الإعلام التي تتعاطف مع هذا النهج وهذه الممارسات ندرك مدى (أهمية) العنصرية كمكون جوهري من منظومة التدين السياسي ودوره الاجتماعي والثقافي وفعاليته الاجتماعية والسياسية.
الرئيس ترامب قصد تماما تصريحاته، وهي ليست مجرد «تهور» إعلامي، وليست مسألة ارتجال مرتبك ومربك، وإنما تصريحات هادفة إلى بدء استنفار (عنصري) للقاعدة الشعبوية العريضة التي يراهن عليها في الانتخابات القادمة.
وهي لا تختلف من حيث الجوهر عن التحريض الذي مارسه نتنياهو في الانتخابات ما قبل الأخيرة، ضد المواطنين العرب، وهو ما يعكف عليه اليوم من محاولة إظهار أقصى التطرف الممكن في هذه المرحلة.
العنصرية يمكن أن تتحول إلى العنف في إسرائيل في أي مرحلة قادمة، وقد تأخذ أشكالاً دموية عند درجة معينة من تطور الأحداث وتداعياتها وآليات الدفع التي تتولد في سياق هذا التطور.
أما في الولايات المتحدة فإن تحولاً من هذا النوع ما زال مستبعداً لكنه ليس مستحيلاً على كل حال.
إذا لم تدرك القوى المعارضة للترامبية ولليمين القومي والديني في إسرائيل أن العنصرية التي تطل برأسها في كلا البلدين تحتاج إلى إعادة تنظيم المعارضة لها، وإذا لم تتوحد في مواجهة الأخطار التي باتت تنطوي عليها هذه العنصرية فإن اليمين المسيحي الجديد واليمين القومي والديني في إسرائيل سيجرّان المنطقة والعالم إلى حروب مدمّرة ترفع راية الدين، وراية الفاشية الدينية الجديدة، وهو ما سيؤجّج الصراع ويعيد الاعتبار للفاشية الدينية في عموم الإقليم العربي.
القرار والتصويت الذي تم ضد ترامب في مجلس النواب الأميركي هام وهام للغاية لكنه لن يكفي لوقف اندفاعة العنصرية إذا لم يتم إعادة تنظيمه وبناء جبهة للتصدي للعنصرية وإسقاطها سواءً في أميركا أو في إسرائيل.
كل المؤشرات تقول بأن إسرائيل وأميركا تتشابهان في الواقع السياسي وتطوراته ومصيره، أيضاً، وهناك ما يكفي من الدلائل أن ثمة طورا جديدا للتحالف بين البلدين أكبر وأعلى مما هو عليه الآن، بالرغم من أن هذا التحالف بواقعه القائم هو على أعلى الدرجات.
[email protected]
أضف تعليق