لم يكن الأمر فجأة كما يمكن الاعتقاد؛ فالاحتجاجات التي اندلعت بأوساط الأثيوبيين في إسرائيل ليست إلا ترجمة حقيقية لطبيعة المشروع الاستعماري الذي تحقق بوجودها على أرض فلسطين. فمنذ ذلك الوجود القسري، الذي أتي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني ونتج عنه استلاب أرضهم وسرقة مقدراتهم وتشتيت أهل البلاد، لم تكن إسرائيل إلا دولة تمييز عنصري.. ليس فقط في تمييزها بين المهاجرين اليهود أو من يدعون ذلك وبين سكان البلاد الأصليين، بل أيضاً في كونها، وهذا حقيقة الأمر، دولة للمستعمرين البيض مثل كل مستعمرات أوروبا في الخارج.
وحين يتم التدقيق في الأمر، فإن إسرائيل لم تولد في عقول يهود المشرق، ولا حتى هم انضموا لمشروع الهجرة إلا بعد وجود الدولة، بل ولدت ضمن نسق استعماري مخياله الأشمل المشروع الاستعماري الأوروبي، بآباء الحركة الصهيونية كلهم من يهود أوروبا، ومؤتمراتهم أوروبية صرفة. بل إنه يمكن تخيل كيف أثرت التجربة الاستعمارية والخبرات الكولونيالية الغربية في أفكار هرتسل وزملائه وهم يخططون لسرقة فلسطين. وعليه فهي ولدت كفكرة مثل إحدى دول الرجل الأبيض خارج القارة، ولم تكن أكثر من مشروع آخر من مشاريع الاستعمار الأوروبية. صحيح أنها أخذت وجهاً دينياً أو تم استغلال الصراع الديني في تذكية مسببات وحجج قيامها، إلا أنها ظلت فكرة أوروبية بيضاء بامتياز. وبالقدر الذي يمكن فيه تتبع نشوء الفكرة في أدبيات المشروع الاستعماري الأوروبي من شارلمان ونابليون حتى بلفور، بالقدر الذي يجب التأكيد على أن الدور الأوروبي الكبير في قيام إسرائيل لم يكن إلا ترجمة لنوازع أوروبا ومواطنيها من أصحاب الديانة اليهودية. وعلى نفس المستوى من التحليل، وعند تفكيك المشروع الاستعماري منذ نهايات العصور الوسطي، وخروج السفن لاكتشاف العالم الجديد، نجد كيف كان ذلك المشروع مجموعة فسيفسائية لأصحاب مصالح متعددين، يعيدون نمذجة الصراعات في المجتمعات المحلية من أجل تبرير المشروع الكولونيالي. مثلاً كانت الرسائل التبشيرية، التي تجعل من مهمة المستعمر جلب النور إلى عالم الظلام الذي تعيش فيه المستوطنات، جوهر كل التبريرات السابقة التي حاولت تقديم المشروع الكولونيالي بوصفه مهمة نبيلة ومقدسة، بل تستمد تلك القداسة من متون النص السماوي ذاته. والأمر كذلك، فإن التطابق في جوهر المشروع في بداياته مع نهاية القرن الخامس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مرحلة تفكيك المستعمرات، يتطابق بشكل كبير في إحالاته الدينية مع المشروع الكولونيالي في فلسطين، حين تم استدعاء مقولات نسبت للدين حول حقوق إلهية وجب إعادتها للرب و"شعبه". من هنا مثلاً يمكن فهم التزمت المسيحاني عند بعض الطوائف دفاعاً عن إسرائيل، بل واعتبار قيامها واجباً مسيحياً، مع ما يرتبط بذلك من فكرة الخلاص.
عموماً، ما يمكن الوقوف عنده هو الحقيقة الثابتة بأن إسرائيل مشروع استعماري للرجل الأبيض، والأمر كذلك، فهو ليس إلا إعادة إنتاج لمجمل المشروع الاستعماري الأوروبي، حتى حين يتم توظيف خرافات مستمدة من تاريخ مزعوم يتم تغليفها بمقولات تنسب للرب، فإن الأمر لا يعدو كونه مسوغات غير قانونية لفعل منتهك للقانون. وفي كل الحالات، فإن خبرات الاستعماري الأوروبي مليئة بالشواهد التي تكشف تعميم النموذج من روديسيا البيضاء إلى جنوب أفريقيا وغيرهما حتى تجربة الجزائر. وبذلك فإن التفاف النخبة المعرفية وبعض أركان المؤسسة الدينية في أوروبا وشمال أميركا، وكذلك استماتة الدول الرسمية ذات الإرث الاستعماري كبريطانيا وفرنسا وبلجيكا في الدفاع عن حقيقة وجود إسرائيل كدولة، ما هو إلا استكمال لتبرير الذات حول الجرم الاستعماري المقترف سابقاً.
تأسيساً على السابق، فقد لا يبدو غريباً أن يكتشف من يطلق عليهم يهود الفلاشا أنهم ليسوا مواطنين في تلك الدولة، ولن يبدو غريباً قمع الشرطة لهم بطريقة وحشية، مع أن القمع بكل أشكاله وحشي، وقد يبدو مستهجناً استغرابهم من وقوع كل ذلك. فمقتل الشاب سولومون تيكا وما تلا ذلك من احتجاجات وطريقة تعامل الشرطة معها كأنه فجأة، كشف للمائة وأربعين ألفاً من يهود الفلاشا أن هذه ليست دولتهم. في الحقيقة، لم تكن هذه يوماً إلا دولة المستعمر الأبيض. لذلك، فلن يكون غريباً أن تقف كتل بيضاء كاملة ضد تعريف من هو اليهودي؛ لأن الكثير من هؤلاء المهاجرين ربما لا يوجد لهم أي سند يهودي. وعليك أن تتخيل الهجرات التي تمت من جمهوريات روسيا السابقة حيث الآلاف من المهاجرين لم يكونوا إلا باحثين عن حياة أفضل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق. فقط أنظر كيف كان والد الشاب القتيل يتحدث بالأمهرية ولا يجيد العبرية التي عادة ما يتقنها المهاجرون حتي يثبتوا انتماءهم للدولة الجديدة. والغريب في الأمر كيف أن هذا الرجل الأمهري صدّق أن أحداً صدّق أنه يهودي ينسل من سلالة القبيلة العبرانية أينما كان موطنها.
عموماً، فإن ما يجري يكشف حقيقة المشروع الكولونيالي الاستعماري الذي أوجد إسرائيل كدولة أخرى من دول المشروع الاستعماري خارج أوروبا مثل بقية المستعمرات، وهي وجدت في الأساس للرجل المستعمر الأبيض. وبسبب التبرير الديني الذي تم سوقه حول الأرض التي وهبها الرب، فقد تم التسامح مع فكرة وجود مستويات من المواطنين الذين يقتاتون على وعود الرب من سكان المنطقة العربية وهم اليهود العرب. وكان ذلك حتمياً وبالضرورة، وكذلك تم التساهل مع فكرة الفلاشا ويهود المناطق البوذية وغير ذلك. لكن عميقاً داخل المشروع الكولونيالي لم يتم التسليم بالأمر؛ فإسرائيل دولة الرجل الأبيض بامتياز.
[email protected]
أضف تعليق