أولاً: الشكل: قاعة فخمة وأنيقة، والمحاضر، الأستاذ والأمير الشاب يعتلي المنصّة، ويستعلي على كل الحضور.
وجه طفولي شمعيّ الملامح، تدرب جيداً على تقديم العرض. لكنه قليل الخبرة بلغة الجسد، وأغلب الظن أن بداخله ما يكفي من الشكوك بجدوى الاحتفالية الملتبسة.
ثانياً: عندما أتى المحاضر الشاب على «الشق» السياسي لم يجد ما يقوله سوى أن رئيسه لا ولن ينسى الشعب الفلسطيني ... ! ولنا أن نتخيل هنا كيف أن هذا الرئيس يمكن أن يتذكر الشعب الفلسطيني لكي ينسى فلسطين ويمحوها من كل ذاكرته نهائياً.
أكد المحاضر الشاب ذو الوجه الطفولي المشمّع أن حل النزاع ضروري لنجاح خطته الاقتصادية، لكنه تجنب الحديث او الخوض في كل المسائل الجوهرية التي يعرف القاصي والداني أنها تشكل لب الصراع ومفاصله الحيوية.
إذن كل ما أتى عليه المحاضر الشاب في عالم السياسة وعود في الهواء الطلق، لا تلزم أحداً ولا تؤسس لأي توافقات أو تفاهمات أو عقود، ولا تؤدي إلى حلول من أي نوع كان، وليس بوسع أحد أن يعتمد عليها في بناء عملية سلام جادة أو حقيقية.
الحالة الوحيدة التي تضمنها عرض السيد كوشنر والتي لها ملمح سياسي من نوع خاص ـ بما يمكن أن ينطوي عليه من استهدافات مزدوجة ـ في المعنى وفي النتائج هي الطريق الذي قال إنها شريط ما بين الضفة والقطاع، والتي تعترض عليها إسرائيل علناً وبكل قوة. أما «الاحتلال» فقد غاب عن الذكر وعن التلميح، وأما السيادة الفلسطينية فلم يكن لها لا ذكر ولا وجود، ولم يرد ولو تلميحاً الوقوف في وجه الاستيطان والضم والتهويد.
السيد كوشنير جال المنطقة قبل انعقاد الورشة، وسمع كلاماً واضحاً من العرب بأنه لا يمكن أن يبدأ الحل بمعزل عن شق سياسي، وأن هذا الشق السياسي إذا لم يلبِّ الحقوق الوطنية الفلسطينية في إنهاء الاحتلال، وقيام الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والبحث في حل عادل لقضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية فإن من الصعب، بل والمستحيل تقبّله أو قبوله..، مع ذلك أصرّ على عقد الورشة، وأصرّ على المنطق الأميركي الذي يحكم إطارها وأهدافها وأدواتها.
لماذا إذاً هذا الإصرار؟!
السبب الحقيقي هو أن الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترامب تسعى لكي تحمّل الجانب الفلسطيني مسؤولية «الفشل»، ولكي تعطي لنفسها «الحق» في العمل المباشر ضد هذه القيادة، لأن كوشنر يعرف أنها خطة التوطين.
الإدارة الأميركية من خلال عملية أرى أنها منهجية ومدروسة، تخطط لكي تدخل الأرض الفلسطينية في حالة من الفوضى الداخلية، وهي تدرك أن المصالحة ليست قريبة، والعقبات أمام هذه المصالحة ما زالت كبيرة، وهي (الولايات المتحدة ومعها إسرائيل) تغذي نزعة الانقسام وتكريسه، وتعمل على تحويله إلى أمر واقع، ما سيؤدي إلى الدخول عبر بوابة غزة إلى المشروع الاقتصادي أو الحل الاقتصادي.
من أمعن النظر ودقق في المصطلحات، وخصوصاً في الجلسة الختامية يستطيع أن يستشفّ بسهولة ويُسر أن عين كوشنر على غزة، ومراهنة الإدارة الأميركية هي هناك. هذه المسألة لا أراها واردة من باب التشكيك وإنما من باب التنبيه فقط في هذه المرحلة.
الصورة التي عرضها كوشنر عن «مستقبل غزة» لا تختلف في جوهرها عن الصورة التي يستخدمها سماسرة العقارات في إغراء الزبائن عن العقار المنوي إقامته!
يريدون «إغراء» غزة بالازدهار، ويريدون أن يبيعوا أهلنا في غزة صورة افتراضية عن واقع مستحيل التحقق.
ألمحوا أن السلام الاقتصادي يتطلب إنهاء العنف أولاً، وأكدوا أن السلام الاقتصادي هو شرط السلام السياسي، واخفوا حقيقة أن إسرائيل مستعدة وعلى الفور للتعاون مع الخطة إذا كانت السلطة القائمة في غزة جاهزة لإنهاء العنف، والعمل على وضع الخطة الاقتصادية موضع التنفيذ.
في خطة كوشنر عشرات الكمائن السياسية، وفي جعبته الكثير الكثير من المطبّات التي ستطيح بكل ما أنجزناه وحققناه للشعب الفلسطيني من وحدة الأرض والشعب والقضية، ومن تحويل فلسطين إلى واحدة من أهم الحقائق السياسية في عالم اليوم.
ما يخيف ترامب وكوشنر ومن أمامهم وإلى جانبهم نتنياهو هو أن المشروع الصهيوني أمامه «فرصة» (تاريخية) لكي يُنهي الحلم الفلسطيني، ولكي يبدد الهوية والوجود الفلسطيني، ولكي يؤبد الاحتلال ويحول الشعب الفلسطيني إلى جماعات متناثرة.
وهذه هي فرصة العصر التي تحدث عنها كوشنر، ما يخيفهم هو ضياع الفرصة. صحيح أن الورشة كانت بائسة وباهتة، وصحيح أن الدعم «العربي» لها بدا واهناً وهامشياً، وصحيح أن المجتمع الدولي قد عبّر بصورة أو بأخرى عن معارضته لها كمنهج وإطار، لكن الصحيح، أيضاً، أن إصرار الولايات المتحدة على عقد الورشة هو المؤشر الأهم على مستقبل الصراع معها، ومع مشروعها لتصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء المشروع الوطني الفلسطيني.
لم يعد مع انتهاء أعمال هذه الورشة ما يمكن لأحد أن يراهن عليه، ولم يعد أمامنا غير طريق المواجهة مع مشروع أميركا «للسلام» في الشرق الأوسط.
وكما يطالبنا كوشنر بالتفكير من خارج الصندوق فإن علينا فعلاً أن نأخذ بنصيحته.
علينا فعلاً أن نفكر من خارج الصندوق، وعلينا تحديداً أن نفكر من خارج صندوق كوشنر ونتنياهو وبعض العرب.
علينا أن نعرف ونعترف أن مرحلة كاملة بكل عدتها وعديدها شارفت أو هي تشارف على الانتهاء، وعلينا أن نعترف أن المرحلة الجديدة لم تطلّ برأسها بعد، ولكنها على وشك.
لن نتمكن بالوسائل التقليدية (التي اعتدنا عليها) أن نواجه المرحلة الجديدة، ولن نقوى أبداً على مواجهة التحديات في قادم الأيام بنفس الأدوات وطرائق التفكير والتدبير.
ونحن لا نمتلك مقومات هزيمة المشروع الأميركي الإسرائيلي في المدى المنظور، ولكننا نمتلك مقومات تحويله إلى مستحيل سياسي.
باختصار، ما يمكننا فعله هو منع المشروع المعادي من التمكن منّا. نحن بحاجة فعلاً وسريعاً ليس فقط إلى إعادة تعريف للمشروع الوطني، وإنما بحاجة، أيضاً، إلى إعادة تعريف للمشروع الصهيوني نفسه، تماماً كما نحن بحاجة إلى إعادة تعريف بالأدوات الكفاحية القادرة على إنجاز التجاوز الآمن للمرحلة القادمة.
لست من أنصار الحديث عن الكارثة الجديدة، أو النكبة الثانية، أو غيرها من مفردات الإحباط والانهزامية، لأننا في الواقع أمام الفصل الأخير من مسيرة الاستقلال الوطني.
إذا فشل ترامب وطاقمه وأصدقاؤه في إسرائيل وغيرها (وهم قلّة قليلة) فإن المرحلة التي ستلي فشلهم مباشرة هي مرحلة الانتصار الفلسطيني ومرحلة الاستقلال الناجز.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]