خلود مصالحة
عند الحديث عن حوادث الاعتداءات الجنسيّة، خاصة الغلمانيّة(اشتهاء الأطفال)، يدفعنا المنطق والعقل السليم إلى الصمت في الحالة السيئة، وإلى الاستهجان والاستنكار في حالِ رغبنا بتسجيل موقف رافض لمثل هذه المُمارسات.
وصراحةً، فكرت مليًا قبل كتابة هذه السطور، في نهاية الأمر لا زالت التحقيقات مع محمود قطوسة جارية، حتى وإن كُنت على قناعة ببراءته، بعد أن سمعتُ تصريحات عائلته، او لعدم ثقتي بجهاز القضاء الإسرائيلي، إلا أنه لا زال هنالك هاجسًا صغيرًا يدفعني إلى الصمتِ، ماذا لو كان فعلا قد تم الاعتداء على طفلةِ؟!
لكن متابعة مستمرة للإعلام الإسرائيلي، ومحاولته المستميتة بالبحث عن قرائن وأدلة تدين قطوسة، وتحاول أن تؤكد على أنه قام باغتصاب طفلة بصورة وحشية، ما يشرعن المطالبات بـ"إعدامه وخصيه" من قبل السياسيين، دفعتني إلى كتابة هذه المقالة، والتي لا تناقش في سطورها براءة قطوسة، إنما تناقش تعامل الإعلام الإسرائيلي مع القضية برمتها، علمًا أنّ هنالك ادعاء دائم، خاصةً من قبل أبناء مجتمعي الفلسطيني في الـ48، على أنّ الإعلام الإسرائيلي مهنيّ وموضوعيّ، عليه يرجى اعتبار هذه المقالة ليست للدفاع عن محمود قطوسة، بقدر ما هي دفاع عن الصحافي يوسي إيلي، فمن خلالها سأحاول تقديم قراءة لتعامل الإعلام الإسرائيلي مع القضية برمتها، وبالتالي الهجوم الأرعن الذي تعرّض له الصحافي، في قناة 13، بعد أنّ كشف لأول مرة على أنّ التحقيقات مع قطوسة، قد تؤدي إلى عدم إدانته، وإلى تبرئته من هذا الاتهام الذي لا يوصف إلا بالشنيع.
وللتوضيح، قضية اغتصاب الطفلة تفجرت يوم الأحد الماضي، إلا أنّ الإعلام الإسرائيلي تعامل معها بهامشية كبيرة، فلم يتم التطرق إليها إلا بعد أنّ قام نشطاء اليمين بمحاسبة الإعلام، كيف يقوم بتجاهل قضية اغتصاب طفلة على خلفية قوميّة. في الوقت الذي تم التطرق في الإعلام إلى عددٍ من قضايا الاعتداء الجنسي مؤخرًا على أطفال من قبل قيادات دينية يهودية، لكن اغتصاب فلسطيني لطفلة يهودية، يستوجب تعامل خاص، يحمل إدانة للفعل نفسه وتجريم لـ 6 ملايين فلسطيني، فكل فلسطيني تحوّل إلى متهمٍ في هذه القضية.
المعطيات التي جمعتها شركة "Vigo"، المُختصة برصد الشبكة العنكبوتية والعالم الافتراضي، أظهرت أنّ الشبكة العنكبوتية والعالم الافتراضي كثّف من تداوله للموضوع مساء الأحد وصباح الإثنين الفائتين، حيث أظهرت المعطيات على أنّ 73% من الحالات التي تم رصدها، سواءً من خلال منشورات عبر "فيسبوك" و"تويتر" أو أخبار في الإنترنت، تعاملت مع الحدث من الجانب القوميّ، ما يؤكد اندفاع اليمين إلى جرِ الحادثة إلى هذا المستوى، علمًا وإن كانت الوقائع صحيحة، فهي حالة مرضيّة تستوجب معالجتها ولا علاقة لها بتوجهات سياسيّة أو قوميّة، فعذرًا زميلاتي النسويات من الصعب عليّ الاقتناع أنّ هنالك اعتداء جنسي يُنّفذ على خلفية قوميّة، فالخلفية الوحيدة المحركة لهذه النزوة البغيضة هي شهوة حيوانيّة، حتى وأنّ أقرت المحكمة الجنائيّة الدوليّة خلاف ذلك من خلال بند أركان الجرائم.
مساعي اليمين الإسرائيلي تكللت بالنجاح، ليقوم الإعلام الإسرائيلي بدءًا من يوم الثلاثاء الماضي، بالتطرق إلى الحادثة بتوسع كبير، مع اتهام واضح لمحمود قطوسة، على الرغم من نشر تقرير صحافي في القناة 13، الذي قام به الصحافي يوسي إيلي، مساء الإثنين الفائت، مؤكدًا من خلاله أنّ التحقيقات مع قطوسة قد تفضي إلى براءته، وأنه وعلى ما يبدو ما الحادثة إلا فرية دم، ونسيج خيال طفلة لم تعرف دوافعها بعد.
الإعلام الإسرائيلي، وعوضًا عن الالتفات إلى الوقائع التي عرضها إيلي، ومعالجتها بالطريقة الإعلاميّة المهنيّة والمقبولة، سمح لليمين بشن هجوم أرعن عليه، وتخلى عن امتحان الزمالة، ليقوم مقابل ذلك ببث سموم تتلاءم مع اتهامات اليمين وتغذي رغبتهم في خلق شيطان آدمي يحمل هوية فلسطينية.
ولعل المثال الأبرز على هذا التعامل كان لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، صحيفة الجميع كما تدعي، والتي قامت صباح الثلاثاء الماضي بتوزيع نشرتها اليومية مع عناوين صارخة وتحريضيّة، إذ جاء على صفحتها الأولى العنوان التالي "بدون رحمة"، إلى جانب العنوان صورة محمود قطوسة، وفي العنوان الفرعي جاء في الصحيفة "بكت، صرخت، وطلبت أن يتوقف. إلا أنه استمر. لائحة اتهام قدّمت ضد محمود قطوسه، فلسطيني الذي عمل كخادم في المدرسة ببنيامين، تصف اللائحة كيف قام بإغواء طفلة ابنة الـ7 بتقديمه لها الحلويات، قام بشدها عنوة في أرجاء المستوطنة، ولاحقًا اغتصابها أمام أصدقائه الذين كانوا يضحكون. المتهم ينفي التهم إلا أنه بدا كاذبًا بعد فحص جهاز الكذب".
عنوان رئيسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"
أمام هذا المشهد لا يسعك إلا أنّ تقول: لنعدم قطوسة حالا ولاحقًا نهتم بأصدقائه من شاركوه الجريمة، والفضل للصحيفة ومحررها الذي عبّر عما نشعر به، حيث خصص مساحة كبيرة لردود فعل السياسيين السامة، منهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن المُقال أفيغدور ليبرمان، الذي أكد من خلال تصريحه على أنّ "هذه ليست غلمانيّة (بيدوفيليا، اشتهاء أطفال)، إنما إرهاب خالص، من أقسى أنواع الإرهاب التي سمعت عنها مؤخرًا".
ولم يتوقف النشر عن هذا الحد، فعلى الرغم من المعلومات الإضافية التي تسربت من التحقيق، والتي تشير إلى براءة قطوسة، لربما، غالت الصحيفة وقامت يوم الأربعاء الماضي بنشر تفاصيل إضافية مضللة، لتأكيد إدانة قطوسة، تحت عنوان "كشف جديد"، والذي يدفعك إلى الاعتقاد أنّ الكشف يتعلق ببراءة قطوسة. وجاء في الصحيفة "الطفلة قدمت إفادة 4 مرات، وشرحت بإسهاب كيف تم الاغتصاب (هل هنالك أصدق من شهادة طفل؟!)"، وأضاف النشر "قامت برسم البيت الذي تم فيه اغتصابها". وأوضح "قدمت إفادة على أنه تم اختطافها بسيارة أو حافلة-وليس مشيًا على الأقدام"، في محاولة من قبل الصحيفة توضيح ادعاء الطفلة أنه تم جرها إلى بيت معين لاغتصابها ما طرح عدة أسئلة عما إذا تمت العملية دون أن يلحظ أحد ذلك. وزادت الصحيفة "وفق معلومات جديدة، هذه ليست أول حادثة اعتداء لقطوسة"، ما يعني أنّ الكشف الجديد في هذه الحالة هو إدانات سابقة لقطوسة.
التغطية في صحيفة "معاريف" كانت مماثلة، وحملت اتهامات كان من الصعب تفنيدها، حيث حملت اتهامات لقطوسة رغم المعلومات التي تم النشر عنها يوم الإثنين مساءً، من قبل المراسل إيلي.
وكان عنوان "معاريف" حول هذا الخبر، الثلاثاء الماضي، كالتالي "الرعب والغضب"، وأضاف العنوان الفرعي "في لائحة اتهام صعبة، اتهم محمود ناجي عبد الحميد، ابن الـ46 عامًا من دير قديس، آذن المدرسة، بأنه قام بجر ابنة الـ7 إلى أحد البيوت في حيبل بنيامين، وفيما امسك بها اثنين من زملائه، وقام باغتصابها بقوة وهي تبكي بحرقة وتصرخ للمساعدة. في العالم الافتراضي والسياسي يطالبون بفرض عقوبة الإعدام، الطرد والخصي".
عنوان صحيفة "معاريف" حول قصة قطوسة
وقامت صحيفة "معاريف"، في مقالة داخلية، بالتطرق إلى ردود فعل السياسيين، حيث جاء في مقالة تحت عنوان "السياسيون سارعوا بمطالبة حكم إعدام، طرد وخصي المتهم في الاغتصاب"، أن عضو الكنيست بتسلئيل سموتريش (من تحالف أحزاب اليمين)، طالب المحكمة العسكرية بفرض عقوبة الإعدام على المتهم، فيما كتبت عضو الكنيست كيتي شطريت (الليكود): "لن أرتاح حتى يتم ينال حثالات البشر الذين شاركوا في اغتصاب الطفلة ابنة الـ7 عقابهم. أعد بمرافقة المحكمة بشكل شخصيّ".
وحتى بعد أنّ بدأت الحقيقة بالاتضاح أكثر فأكثر، بقيت الصحيفة مصرة على موقفها، ونشرت يوم الأربعاء الماضي، العنوان التالي "علامات السؤال: تحقيق اغتصاب الطفلة ابنة الـ7 فُتح مجددًا" (يطرحون علامات سؤال رغم الحقائق). وجاء في العنوان الفرعي "الشرطة تقرر استكمال التحقيق ونقل الملف إلى وحدة أخرى، بسبب معلومات جديدة، والتي وفقها هنالك شبهات أنّ هذه ليست المرة الأولى لقطوسة وهنالك حالة أخرى"، ما يعني أن التطور في التحقيق ليس براءة قطوسة، إنما حالة اعتداء إضافية، كما في يديعوت أحرونوت.
وكما السابقات، صحيفة "يسرائيل هيوم" تعاملت بالمثل في التعامل مع الخبر، فبمجرد ما نشر الخبر مساء الأحد الماضي، حتى نشرت خبرًا يوم الإثنين الماضي يحمل العنوان التالي "فلسطيني خطف طفلة ابنة 7 واغتصبها"، وفي السطور الداخلية تعاملت الصحيفة مع الحادثة وكأنها حقيقة مسلم بها وقطوسة مُدان بشكل تام، الأمر الذي أكده عنوان الصحيفة في اليوم التالي، والذي تطرق إلى "أصدقاء المتهم الذين أمسكوا بالفتاة وضحكوا عليها بالوقت الذي قام به المتّهم بفعلته".
ولم تبخل الصحيفة علينا في تحليلات خاصةً، حيث خصصت مساحة كبيرة لمقالة محامية تدعى روني ألوني، والذي ادعت خلاله، بأنه حان وقت الحديث عن اغتصاب على خلفية قوميّة، وطرح المقال قضية قطوسة وقضايا اغتصاب سابقة، وقامت بربطها سويةً.
الصحف المتدينة أيضًا انضمت إلى مساعي إدانة قطوسة، ولربما لا يوجد متسع للتطرق إليها جميعًا وإلى عناوينها، لكن أكثر العناوين إثارة كان "حصري: أخ المتهم بالاغتصاب وُثق مسلحًا أثناء مشاركته في جنازة مخرب"، وهو نشر جاء به "حصريًا"، ألحنان جرونير، يوم الخميس الفائت، في صحيفة "الصوت اليهودي"، وتطرّق من خلاله إلى خلفية عائلة قطوسة ودير قديس التي خرج منها محمد قطوسة، واستعرض من خلال التقرير مقتبسات وصور لمنشورات لأقارب المتّهم، متهما إياهم أنهم متورطون في "الإرهاب" وخاتما المقال بجملة "الأمر الأكيد، أن المسافة كبيرة جدًا بين التعريف "إحدى القرى الصديقة" وبين "دير قديس وعائلة قطوسة"، في إشارة منه إلى أنّ دير قديس والمعروفة بعلاقتها مع اليهود المتدينين، لا يمكن أن تكون قرية صديقة، فعليكم الحذّر منها.
من الواضح أعلاه أنّ الإعلام الإسرائيلي قد قال كلمته، وحكم على قطوسة بالإدانة، ما يجعل مساعي تبرئته قد تبدو مستحيلة، فأي أجوبة سيقدم هذا الإعلام لقرّائه في حال ثبتت براءته، والسؤال الأهم، من سيقوم بمحاسبة الإعلام لتجريمه شخص بريء، وهل سنكتفي بالقول "نتهم" وننشر مقالة كمقالة النقيب ألفريد دريفوس؟
[email protected]
أضف تعليق