مفارقات عديدة لا بد أن يسجلها التاريخ مرتبطة بحكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية الرابعة، والتي تشكلت بعد انتخابات الكنيست العشرين، منها أن تلك الحكومة بقيت تتمتع بأغلبية مقعد برلماني واحد خلال العام الأول من تشكيلها، إلى أن التحق حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان بها وتولى وزارة الأمن، ومنها أن تلك الحكومة ستذكر على أنها أمضت أطول فترة كحكومة انتقالية، وذلك خلال فترتي الإعلان عن تبكير الانتخابات للكنيست الحادي والعشرين، والذي فشل في تشكيل الحكومة لأن المكلف نتنياهو لم ينجح في الحصول على أكثر من نصف عدد المقاعد النيابية، حيث اشترط حزب ليبرمان ذو الخمسة مقاعد أن يتم إقرار مشروع قانون التجنيد الذي ترفضه الأحزاب الدينية الحريدية " يهودوت هتوراه وشاس" .
ومن المفارقات أيضا أن نتنياهو ظل يحتفظ بحقيبة الخارجية فترة طويلة، لدرجة أن أحدا لم يلحظ نشاطات تلك الوزارة فيما يخص تعزيز علاقات إسرائيل بالخارج، ذلك الملف الذي تولاه نتنياهو بنفسه، باعتبار أنه يتولى مسؤولية الوزارة، وحقق اختراقاً مهماً من خلال إقامة علاقات مع بعض الدول الأفريقية مثل تشاد، كذلك من خلال استقبال دول عربية خليجية لوفود ومسؤولين إسرائيليين بمن فيهم نتنياهو نفسه، الذي استقبلته سلطنة عمان قبل عدة شهور.
وظل الأمر هكذا إلى أن قام نتنياهو بتعيين وزير المواصلات الليكودي إسرائيل كاتس قائماً بأعمال وزير الخارجية في شباط الماضي، ليتفرغ_ربما_ لقيادة دفة الانتخابات المبكرة التي أجريت في نيسان، أي بعد ذلك التعيين بأقل من شهرين، ورغم ذلك فلم يهتم أحد بالأمر، بل لم يلحظ احد أن هناك فرقاً قد حدث، على أداء الخارجية الإسرائيلية، بل أكثر من ذلك لا احد يشعر "بحاجة" إسرائيل للقيام بمهمة الدفاع عن السياسة الإسرائيلية في الخارج !
السبب يعود في ذلك إلى شيء آخر، له علاقة بوجود طاقم أميركي مكون من ثلاثة أو أربعة أشخاص يعملون في البيت الأبيض لا يدافعون عن السياسة الخارجية الإسرائيلية وحسب، بل يتولون المهمة كما لو كانوا يمينيين إسرائيليين أو أفراداً من حكومة نتنياهو، أكثر من كونهم مسؤولين أميركيين.
وهؤلاء هم جاريد كوشنير صهر الرئيس دونالد ترامب، مستشار الرئيس السياسي، والمكلف ما يسمى إعداد صفقة العصر لحل ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، وجيسون غرينبلات، المبعوث إلى الشرق الأوسط، وديفيد فريدمان، السفير في إسرائيل، وكانت معهم نيكي هايلي، المندوبة في الأمم المتحدة.
صحيح أن إسرائيل منذ عام 1948 هي حليف للولايات المتحدة، وصلت درجة التحالف في عهد رونالد ريغان إلى المستوى الاستراتيجي، لكن ظلت السياسة الخارجية الأميركية تنحاز للسياسة الإسرائيلية، تؤيدها وتقف إلى جانبها في المحافل الدولية، لكن صنع القرار وإعلان الموقف كان دائماً ما يصدر عن إسرائيل، وحين تولت أميركا إدارة المفاوضات بعد مؤتمر مدريد، كانت إسرائيل بقيادة حزب العمل (اسحق رابين وشمعون بيريس) قد شقت مساراً سرياً للمفاوضات المباشرة في "أوسلو" نجم عنه الاتفاق الشهير، فما كان من واشنطن إلا أن باركت الاتفاق وتبنته وكان إعلانه في حديقة البيت الأبيض، برعاية الرئيس بيل كلينتون، حيث ظلت أميركا منذ ذلك الوقت وحتى العام 2014، تحرص على الابتعاد مسافة أمتار قليلة عن الموقف الإسرائيلي، حرصاً على إقناع الجانب الفلسطيني بدورها كراع للعملية السياسية.
لكن إسرائيل استقرت على حكم اليمين منذ عام 1996 حتى الآن، وهكذا دفع الأمر إلى تغيير في السياسة الخارجية الأميركية، فكان التغير الأول في عهد جورج بوش الابن، الذي رئس الولايات المتحدة ما بين عامي 2000_ 2008، ليعلن بأن الملف الفلسطيني/الإسرائيلي ليس هو أولوية إدارته بل الملف العراقي، لكن عودة الحزب الديمقراطي إلى الحكم في عهد باراك أوباما ما بين عامي 2008_2016 أعاد البوصلة لكن دون جدوى، لأن اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو كان قد تكرس في حكم إسرائيل، إلى أن أغلق مسار التفاوض تماما عام 2014.
من يتابع تصريحات ومواقف الطاقم الأميركي خاصة كلا من غريبنلات وفريدمان، يلاحظ ليس فقط أنهما أشبه بمستوطنين إسرائيليين، أو كما لو كانا ينتميان إلى "البيت اليهودي" بل يلاحظ متابعتهما لكل التفاصيل الخاصة بالصراع الفلسطيني/الإسرائيلي وعلى جبهتي رام الله وغزة، حيث يحشران انفيهما في كل التفاصيل، من انقطاع الكهرباء إلى السطو على أموال المقاصة، والأخطر التبشير بالمواقف التي يجبن حتى قادة اليمين الإسرائيلي عن إعلانها، من مثل إعلان فريدمان الأخير الخاص بضم أجزاء من الضفة الغربية.
ولم يتوقف الأمر عن الحدود الفلسطينية، بل إنه تجاوزها إلى حدود الجوار العربي، فأن يعلن مسؤولون أميركيون أنهم طلبوا من قائد الجيش اللبناني جوزيف عون عدم التدخل في حال نشبت حرب بين إسرائيل وحزب الله، أمرٌ لا يثير الاستغراب وحسب، بل ويجعل من أميركا عدواً مباشراً للعرب في فلسطين ولبنان وسورية وغيرها، ذلك أنه من الطبيعي جدا أن يدافع أي جيش عن حدود بلاده، في حال تعرضت لعدوان خارجي، أما شأن حزب الله فيبقى شأناً داخلياً لبنانياً، لا يوجد أي مبرر لا لإسرائيل ولا لأميركا أن تتدخلا فيه، فكل ما يحدث داخل لبنان وعلى حدوده الخارجية إنما هو شأن الدولة اللبنانية وهي التي تتحمل مسؤولية أي خرق أو اختراق للعهود والمواثيق والقوانين الدولية.
والغريب أن هذا الموقف يعلن عنه في الوقت الذي تتدخل فيه الولايات المتحدة لترسيم الحدود المائية بين لبنان وإسرائيل، حيث إن الأطماع الإسرائيلية تبدو بلا حدود أو كوابح في تطلعها للسيطرة على حقول الغاز في شرق البحر المتوسط.
وإذا كان هذا هو حال السياسة الخارجية الأميركية فإن اعتبار ورشة المنامة خيانة للقضية الفلسطينية، إنما هو موقف وجيه بالنظر إلى أن إسرائيل ستدخل العاصمة العربية تطبيعياً بالمجان، وسيجتمع الوفد الإسرائيلي بالوفود العربية المشاركة، بالمجان، "ويا عيني" لو أن ملوك وأمراء وشيوخ العرب كانوا حاضرين إلى جوار نتنياهو، فذلك يعني أن العرب قد تخلوا عن المبادرة العربية وعن اشتراط إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مقابل تطبيع العلاقة مع إسرائيل، لكن ذلك قد لا يحدث في هذه المرة، بل ربما يحتاج جولة "منامية" ثانية!
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]