في كل مرة يثير العيد الكثير من الشجون ويصحب معه الكثير من الأمنيات ويعيد مع رحيله تذكيرنا بكل الأشياء غير المنجزة.
ومع كل هذا يظل له بريقه الخاص ولمعانه في الروح، ولا يفقد مع تكراره أياً من هذا.
فالمرء يعيش عيدين في العام وفي كل مرة يشعر أنه العيد حقاً، لا ينتقص من حلاوته تكرار وقوعه مثل بقية الأشياء في الحياة، ولا يخفت بريق استقباله وانتظاره.
وربما أن هذا الوقوع المتكرر له سبب آخر لاستعادته دائماً. وبشكل مختلف فإن الفرحة التي يدخلها على قلوبنا ترتبط أكثر بأنه دائماً يعود فدائماً هناك عيد رغم كل الظروف، هناك لحظة للاحتفال والبهجة.
كل شعوب الأرض لها أعيادها وربما أن فكرة العيد ارتبطت قبل التمظهر الحالي لها بعادات دينية قديمة جعلت من تلك الأيام هبات السماء لأهل الأرض، أو هكذا تمت صياغة تلك المواقيت التي خصصها الكهنة للناس للاحتفال.
فمهما مر عليك من مآسٍ ورغم كل ما قد تكون قد عانيته طوال العام أو في الفترة بين العيدين فإن ثمة يوما قادما ينتظرك وتنتظره، تصطف الأحزان فيه خلف ستائر، ولو مؤقتة، وتتراجع الخيبات في دهاليز النسيان لا تعكر مزاجك. يصعب أن تتخيل ثقافة بلا عيد وبلا لحظات ومواسم محددة للاحتفال. الاحتفال الذي يجلو كل اللحظات وينقي الحياة من كل المآسي.
وثمة متعلقات شخصية في مثل تلك اللحظات وأخرى وطنية عامة، حيث يرتبط العيد في وعي كل فرد بأشياء خاصة كما يرتبط بوعي الجماعة بأخرى أكثر شمولية تتعلق بالتاريخ وباللحظات الماضية من حياتها كما ترتبط بأحلامها وتطلعاتها.
وليس بعيداً عن هذا العادات والتقاليد والاحتفالات والفرح العام. وفي الكثير من الأحيان فإن الطابع العام هو من يحدد شكل العيد وليس التفسيرات والمعاني الفردية، لأن الفرد مهما حاول جاهداً أن يعزل نفسه عن الجماعة فهو في نهاية المطاف ليس إلا جزءاً من كل، وبقدر اعتماد الكل على الأجزاء فإن الطابع العام أكثر إدماجاً ومقدرة على صوغ الفرد. وعليه يظل العيد شيئا جماعيا رغم كل الخصوصيات التي قد يحملها.
كلما جاء العيد حمل معه الذكريات العميقة في الروح. للبعض فإن الذكريات ترتبط بالحنين وربما ببعض الألم لأن أبرز سمات الماضي أنه لم يعد موجوداً وأن تذكره هو علامة على فقدانه والحنين له.
وعليه فإن إليوت في رائعته "الأرض الخراب" ينشد بشجن: نيسان أقسى الشهور، ينزف ليلكاً من الأرض الخراب. فهو يعيد تذكيرنا بكل أحبابنا الذين قضوا في دهاليز الحياة الموغلة في الحزن مع رحيلهم، في لحظات مثل تلك يغدو تذكرهم محتوماً ولا يكون ثمة مفر من إعادة رسم اللحظات القاسية التي تركونا فيها. هذا يبدو طبيعياً لأن الفرح وجه آخر للحزن والعكس حيث أن ثنائية الحياة والموت تظل حاضرة في كل تفاصيلنا.
دائماً هناك من نفتقده. وكما قد يكون دقيقاً فإن ما نفتقده هو لحظات البهجة والفرح التي يفرغها غيابهم. تخيلوا كيف يمكن لك أن تظل ساعات تبحث في ذاكرتك عن كلمات أغنية قديمة أو تمضي ساعات تبحث في الخزانة وفي الحقائب وزوايا البيت عن قطعة قماش تحتفظ بها أو قراط ورثته من جدتك أو أي شيء يشكل وجوده ارتباطاً بالماضي. نحن نفعل هذا دائماً.
هذا الشعور الخفي بالخوف من الفقد هو تحديداً ما يجعل العيد يرتبط بمن رحلوا وبتذكرهم بقدر ارتباطه الأبدي بالأحلام غير المنجزة والأمنيات غير المتحققة بعد.
وعليه وفي تناقض هو سمة الحياة نبدأ في تذكر الماضي واستحضار صعوبة المستقبل. ليظل الحاضر، لحظة الفرح التي يمثلها العيد، هو الشيء الأبدي الوحيد، أو هو الحقيقة المطلقة التي لا يمكن تجاوزها. لذا يذهب وتنتهي إجازته ونعود إلى أعمالنا وقد تركنا خلفنا لحظات امتلأت بالماضي والمستقبل نبدأ الحياة ساعين نحو استكمالها، فالإنسان ليس مذنب تماما فهو لم يبدأ التاريخ وهو ليس بريئا تماماً لأنه يكمله (كامو) ونحن كذلك نواصل كدنا منتظرين العيد القادم، ندرك أن ثمة عيدا سيأتي في الوقت المحدد وأن علينا حتى تلك اللحظة أن نواصل الحياة ما استطعنا لأن لا خيار آخر لنا إلا أن نواصل شق الطريق، فحتى في الآخرة هناك جنة تنتظرنا.
تخيلوا مثلاً كيف صنع الخطاب الوطني من يوم العيد لحظة للبطولة حين قال: ليس العيد لمن لبس جديدا إنما العيد لمن مات على أرض فلسطين شهيدا.
عبارة تختصر الكثير من الحديث السابق عن التذكر لكنها تكشف كيف تصوغ الجماعة توجهات الفرد وكيف تقوم الشعوب بإعادة تركيب المفاهيم لتخدم مصالحها.
أيضاً تخيلوا كيف تكون الأمنيات الفلسطينية خالصة لصالح الهم العام في العيد. وبقراءة سريعة لبطاقات المعايدة والرسائل النصية يمكن الوقوف أمام هيمنة الخطاب العام على الأمنيات الفردية التي لا تتعدى بأي تكون لك وللعائلة. وبشكل آخر فإن العيد فلسطينياً ارتبط بالكثير من الحلم الكبير بالعودة والحرية والاستقلال.
في المقابل لنعيد تذكر تلك الأيام القليلة قبل العيد حين كنا نمضي ساعات نشتري قطعة ملابس تزيننا يوم العيد، ونجلس عند الحلاق في الحارة ساعات قد تمتد لليوم التالي حتى نقص شعورنا لنستقبل العيد بأبهى طلاتنا.
وتخيلوا كيف أيضاً نبدأ العيد بزيارة المقابر وقراءة الفاتحة على أرواح أحبابنا الذي غادرونا ونقصهم العيد. كل هذا يعكس هذا الطبيعة المركبة للحظة الكبيرة التي يجب أن نعيشها كل عام، ويجب في كل عام أن نعيد التفكير في كل ذلك، ويجب أن تختلط علينا المشاعر، ويجب، مع كل هذا، ألا نتوقف عن الفرح والاحتفال، وحين يغادر نفتقده ونبدأ في انتظاره من اليوم الأول.
[email protected]
أضف تعليق