لا شك أن الهجمة المنظمة على وكالة "الأونروا" هي متجذرة ومنذ زمن بعيد وقبل الحديث عن ما يسمى بـ "صفقة القرن". إستهداف "الأونروا" هو مشروع سياسي إستراتيحي منظم ومتجدد ومتشعب ومتجذر وله أشكال مختلفة يسعى لتصفية عمل الوكالة في الخفاء والعلن بأيدي أمريكية وإسرائيلية بالدرجة الأولى ومع حلفاء، على اعتبار أن الوكالة تعبر عن المسؤولية السياسية الدولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين يراد التخلص منها لتبرئة المجتمع الدولي من مسؤولياته تجاه التسبب بأطول قضية لاجئين في العالم من خلال اعترافه بدولة الإحتلال وفق القرار 181 لتاريخ 29/11/1947 وللتخلص من قرار عودة اللاجئين رقم 194 والذي شرعية الكيان الإسرائيلي في الأمم المتحدة لا يزال مرتبط بتطبيقه، لكن تصاعدت وتيرة الهجمة وبشكل غير مسبوق مع الحديث عن ما يسمى بـ "صفقة القرن".
- فمثلاً توقيع إتفاق أوسلو في العام 1993 وما تمخض عنه من نتائج مدمرة على القضية الفلسطينية من إعتراف متبادل بين منظمة التحرير والكيان الإسرائيلي، ومع غياب لإستراتيجية وطنية جامعة، قد أسهم في إستفحال أزمة "الأونروا" وتسهيل استهدافها وصولاً إلى صفقة القرن المزعومة، وبعد إتفاق أوسلو جاءت وثيقة يوسي بيلين أبو مازن لتستهدف وكالة "الأونروا". على الرغم من نفي الرئيس أبو مازن لمحتواها، لكنه اعترف بأن حواراً قد جرى حولها بين خبراء من "الجانبين" الإسرائيلي والفلسطيني. وقعت الوثيقة في سويسرا في نهاية شهر تشرين الأول/أوكتوبر عام 1995 وأعلن عنها بيلين في 29/11/1996 بأنها ستكون مرجعاً مهماً للمفاوضين السياسيين حول مرحلة الحل الدائم.
ورد في البند الرابع من الوثيقة "تَحِل هيئة دولية جديدة محل وكالة غوث اللاجئين "الأونروا" لتعمل على إعادة تأهيل وتأمين إستيعاب اللاجئين في دول وأماكن إقامتهم، والعمل على تطوير الأوضاع المعيشية والإقتصادية والإجتماعية وتذويبهم في الحياة اليومية للمجتمعات الذي يعيشون في محيطها وتتكفل حكومة "حزب العمل" التعامل ثنائياً مع الدول المعنية والأطراف الدولية الراعية، من دون صخب أو ضجيج إعلامي حتى لا يشكل ذلك إحراجاً للسلطة، وممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف بالتعاون مع الدول المضيفة لضمان إغلاق الملف نهائياً".
أما وثيقة جنيف – البحر الميت لم تكون أقل سوءً من وثيقة بيلين أبو مازن. تم التوقيع على الوثيقة في 1/12/2003 لـ "حل القضية الفلسطينية". تم التوقيع بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ورئيس الإتحاد الأوروبي والمنسق الأعلى السابق للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي خافير سولانا، والممثل الخاص لرئيس وزراء بريطانيا لورد ليفي، ووزراء خارجية أوروبيين.. حول "الأونروا" دعت الوثيقة التي وقعها عن الجانب الفلسطيني ياسر عبد ربه وعن دولة الإحتلال الإسرائيلي يوسي بيلين، إلى تشكيل لجنة دولية خاصة مهمتها إنهاء عمل الوكالة مكونة من الولايات المتحدة و"الأونروا" والدول العربية المضيفة والإتحاد الأوروبي وسويسرا وكندا والنرويج واليابان والبنك الدولي وروسيا وغيرها، جاء في الوثيقة "على الوكالة أن تكف عن الوجود بعد خمسة سنوات من بداية عمل اللجنة. تعرض اللجنة جدولاً زمنياً لنهاية نشاط الوكالة ونقل وظائفها إلى الدول المضيفة"..!
هناك الكثير من الشواهد الدامغة التي تشير إلى الإستهداف المباشر لوكالة "الأونروا"، والدعوات إلى نقل خدماتها قبل دعوات الإدارة الأمريكية ودولة الإحتلال الأخيرة إلى تصفية الوكالة وتحديداً مع مطلع العام 2018 ، فمثلاً دعا سلفان شالوم وزير خارجية الإحتلال الإسرائيلي الأسبق في 7/11/2005 إلى نقل صلاحيات وكالة "الأونروا" إلى السلطة الوطنية الفلسطينية"، وأكد بيلين على رؤيته لحل "الأونروا" في 23/6/2008 في معهد كارنيجي الأميركي حين دعا الى حل "الأونروا" وإستبدالها بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)".
حتى أن مسألة سعي الكونغرس الامريكي إلى إعادة تعريف اللاجئ بما يتناسب مع سحب صفة لاجئ من أبناء وأحفاد اللاجئين الفلسطينيين هو ليس بالجديد والذي أثير بعد وصول ترامب الى الرئاسة وبدء الحديث عن ما يسمى بـ "صفقة القرن"، ففي آذار/مارس 2013 عقد مؤتمر في نادي هارفرد في مانهاتن في أمريكا شارك فيه خبراء من الكيان الإسرائيلي والإدارة الأمريكية. ركز المؤتمر على ضرورة صياغة تشريعات في أمريكا تهدف "لإنهاء عملية النقل الأوتوماتيكية لصفة لاجئ من الأب الفلسطيني إلى أبنائه، تلك العملية التي تجري منذ عام 1948".
صحيح أن من يحدد مصير "الأونروا" فقط الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أنشأتها وفق القرار 302 في العام 1949، وليس جرينبلات بتصريحاته الأخيرة من أن الوكالة "لا تحقق ما نتمناه وهي تعمل حاليا في الرمق الأخير" وبأن "الفلسطينيون يستحقون جهة دعم أفضل من "الأونروا" ولا غيره، لكن الضغط الأمريكي ومعه دولة الإحتلال لن يتوقف لإنهاء عمل الوكالة لما لها من ارتباط عضوي بقضية اللاجئين وحق العودة الذي يعتبر جوهر الصراع مع دولة الإحتلال وإستكمالاً لتطبيق ما يسمى بـ "صفقة القرن" ...
من يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى في التصدي لمشروع إنهاء عمل "الأونروا" هو الإطار الرسمي الفلسطيني بسبب الموقع الذي يحتل، وضرورة الرد على ما تطرحه الإدارة الأمريكية بتحريك قضية "الأونروا" عربياً وإسلامياً ودولياً إبتداءً من مجلس الجامعة العربية (وزراء الخارجية العرب) مروراً بمنظمة التعاون الإسلامي، وصولاً إلى الجمعية العامة، وإحباط المؤامرة في حجب الأموال اللازمة لها. التفريط بالوكالة أو التنازل عنها هو إنتهاك للقانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة. إسقاط ورفض قرار الإدارة الأمريكية ودولة الإحتلال لتصفية "الأونروا" يساعد على إفشال ما يمكن أن يُرتَّب من تصفية للقضية الفلسطينية، وفي مقدمته تهويد القدس وإلغاء حق العودة وتكريس توطين اللاجئين الفلسطينيين، وهذا يتطلب عملاً إستراتيجيا قابلاً للمراكمة عبر تحشيد الدول المناصِرة، والرأي العام العالمي، وتحريك الشارع الفلسطيني.
*كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
بيروت في 23/5/2019
[email protected]
أضف تعليق