حل اليوم الثلاثاء، السابع من أيار، الذكرى الـ 90 لميلاد القائد الثائر، وشاعر المقاومة، توفيق زيّاد، رئيس بلدية الناصرة الأسبق، والقائد في الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، ومثلهما لسنوات في الكتلة البرلمانية في الكنيست. وبعد أقل من شهرين ستكون الذكرى الـ 25 لرحيله المبكر المفجع.
لقد مثّل زيّاد بمسيرته الكفاحية النضالية، وبإرثه السياسي والأدبي المقاوم، حالة مميزة. ومن خلال سرد تاريخه، منذ سنوات شبابه الأولى في أوج نكبة شعبنا الفلسطيني، ولاحقا، نكون أمام توثيق مرحلة بطولية، كانت تدور أساسا في الميدان. دفع الشيوعيون وأصدقاؤهم فيها أثمانا باهظة من الملاحقات والسجون وعذاباته، والحرمان من لقمة العيش الكريم، وتقييد الحريات.
كان زيّاد شابا مع المئات من رفاقه، الذين منهم من عانوا ما عاناه، في السجون وغيرها، ولكن في زمن لم تكن عملية التأريخ والتوثيق بالقدر المطلوب؛ ولاحقا، لم يتدارك كثيرون ضرورة التوثيق لما كان يدور من كفاحات ونضالات بطولية ميدانية، فإن إرث زيّاد السياسي والأدبي، نجح في تثبيت حقائق عن تلك المرحلة، التي ما زال من يسعى الى تشويهها، لشطب مرحلة بطولية، في أحلك الظروف التي مرّ بها شعبنا.
تلك سنوات ما بعد النكبة، التي كانت مهمة الحزب الشيوعي فيها أن يستنهض جيلا متمردا على النكبة ورهبتها، فهذا الجيل الذي صنع أيار 1958 في الناصرة وأم الفحم وغيرها، وصنع بطولات عديدة، تم تتويجها في يوم الأرض 1976، الذي قاده زيّاد ورفاقه.
ففي هذه الأيام سنحيي ذكرى النكبة، وستكون مسيرة العودة، التي تجري تحت شعار "يوم استقلالهم يوم نكبتنا"، هذا الشعار الذي انطلق في العام 1998، ولكن قبل 40 عاما بالضبط من ذلك العام، كان هذا هو الشعار الجوهري الضمني للمواجهات التي وقعت في الناصرة وغيرها، حينما منع الشيوعيون "حفل عشر سنين على قيام إسرائيل". يومها كانت المواجهات بطولية: "الناصرة يا ركن الجليل فيك البوليس مدحدلي". وكان توفيق زيّاد بين أبطال المعركة الميدانية، وأمضى في السجن قرابة عام، سوية مع 400 شيوعي أمضوا في سجون الحكم العسكري لفترات مختلفة.
فحينما صاح توفيق زيّاد بشعره، "كأننا عشرون مستحيل في اللد والرملة والجليل"، كان هذا في نهاية سنوات الخمسين، يحمل كل دلالات التشبث بالوطن وهويته ومسمياته. فهو الصارخ فينا، أيضا، بقصيدته "بأسناني"، قائلا: بأسناني... سأحمي كل شبر من ثرى وطني... بأسناني... سأحمي كل شبر من ثرى وطني... بأسناني... ولن أرضى بديلا عنه... لو عُلقت من شريان شرياني... أنا باق...
بعد مظاهرة الأول من أيار التي شهدتها الناصرة في الأيام الأخيرة، قال لي عمي والد زوجتي، ألبير عاقلة، وهو من معتقلي أيار 1958، وكان في ذات زنزانة السجن مع القائد توفيق زيّاد، قال والفرحة تغمره لعظمة تلك المسيرة: "هذا يعيدني إلى تلك الأيام، لقد كانت مسيرات الأول من أيار في تلك السنين مسيرات تحدّي، فبعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، كنا نعزف في فرق أوركسترا الشبيبة الشيوعية، النشيد الثوري المصري الذي صدر بعد العدوان: "الله أكبر فوق كيد المعتدي". وكان هذا تحديا جريئا، بطوليا، تحت حراب الحكم العسكري الشرس.
هذه شهادة، لربما ذات تفصيل صغير عن تلك الأيام، ولكنها مؤشرا كبيرا لما كان، وردا على من يسعى لاختلاق حكاية أخرى، عن نضالات الشيوعيين. ففي ظل تلك الأجواء، انطلق توفيق زيّاد بقصائده الثورية، التي ما تزال ترددها الأجيال الثائرة، والثوريون الملتصقون بقضية فلسطين. فحينما يريد الفرد منا أن يصرخ بأعلى صوته تعبيرا عن البقاء والتحدي، تجده يندفع بنشيد "إنا باقون"، و"كأننا عشرون مستحيل"، وحينما يريد الاستنفار لن يجد أجمل من "أناديكم".
وهذه القصائد التي أطلقها زيّاد ورفاقه محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران، وعرفت لاحقا بقصائد المقاومة، لاقت دفيئتها في صفوف الحزب الشيوعي وعلى صفحات جريدة الاتحاد، جريدة الحزب، لتتلاقى مع أدب إميل حبيبي، الذي قال عنه ذات يوم توفيق زيّاد، إن من أدبه ما كان ملهما لتلك القصائد.
لقد برز زيّاد في تلك المرحلة، في سنوات الخمسين القاسية، شابا ثائرا على الظلم والطغيان، على الظلم الواقع على شعبه المنكوب، وكان مع المئات من رفاقه في تلك المرحلة ممن عانوا من الملاحقة وعذابات السجون، فالروايات كثيرة، ومتداولة، والأجيال الناشئة تحفظها تباعا، لذا ليس صدفة هذا العشق الشبابي لتوفيق زيّاد، ولتراثه الثوري والأدبي.
فآلاف الشباب الشيوعيين والجبهويين الذين انتشروا في مسيرات ونشاطات الأول من أيار، في الأيام الأخيرة، بغالبيتهم الساحقة ولدوا بعد رحيل زيّاد، أو أنهم كانوا أطفالا في سنوات عمرهم الأولى، ولكنهم عبّروا عن ثوريتهم بهتافات "علمنا زيّاد وقال أمريكا رأس الحية"، وغيرها. وهم يعلمون من هو زيّاد، ويعرفونه من هذا الإرث الثوري العظيم الذي تركه لهم إياه.
كان قائدنا الراحل زيّاد، صاحب رؤية سياسية عميقة بعيدة المدى، وكان هاجسه الأكبر صحة الموقف، والحذر من المتسلقين، فهو الذي كان يردد مقولة "اقرأوا ما بين السطور".
وحينما وصل إلى رئاسة بلدية الناصرة يوم 9 كانون الأول 1975، على رأس قائمة جبهة الناصرة الديمقراطية، أطلق شعار "كرامة وخدمات"، بقصد الكرامة الوطنية، متصديا لسياسة قطف الرأس؛ لأنه عرف أن القضية الأساس هي مواجهة السلطة وسياساتها العنصرية برأس مرفوع، ولم ينفع حصار حكومات إسرائيل لبلدية الناصرة وحرمانها من الميزانيات؛ أمام المعركة السياسية الشعبية، التي قادها زيّاد وجبهة الناصرة، مدعومة بالتفاف جماهيري واسع النطاق.
كان زيّاد عضوا في الكنيست، ضمن كتلة الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام، في مواجهة صدامية مباشرة للسلطة الحاكمة، يكشف حقائق السياسات العنصرية، ولم يتهاون ولم يهادن.
لقد أحبّ زيّاد عائلته وأحب أطفال العالم، ما يدل على عمق انسانيته، "وأعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكي يضحك"، ولكنه كرّس نفسه لشعبه ومجتمعه وحزبه، مخلصا للدرب الصادق، متصديا على مدى السنين، لكل محاولات التحريف والتشويه.
على دربك أبو الأمين الحبيب سائرون
[email protected]
أضف تعليق