في غزة، تتزامن أجواء استقبال رمضان، مع أجواء الحرب.. وهي ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها غزة لعدوان إسرائيلي غاشم.. فقد اختبر أهلنا في القطاع الحرب ثلاث مرات على الأقل، تخللها وتبعها عشرات الاعتداءات السريعة.. مخلفة وراءها آلاف الشهداء والجرحى، وعشرات آلاف البيوت المهدمة.. وخسائر مادية ومعنوية يستحيل حصرها.
في كل مرة، كنا نستمع للخبراء والمحللين السياسيين، وهم يشرحون أبعاد المعركة، وخلفياتها.. كما نستمع لقصائد الشعراء، ونثر المعجبين وهم يتغنون بشجاعة غزة، وبتضحياتها.. وفي مرات نادرة جدا استمعنا لقصص إنسانية وحالات اجتماعية كانت تحدث أثناء تلك الحروب.
يأتي هذا العدوان بعد 13 عاما من الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وبعد 12 عاما من حكم حماس، وبعد عامين من الإجراءات القاسية التي فرضتها مالية رام الله على جزء من موظفي القطاع.. وبعد أسابيع قليلة من قمع حماس للحراك الشعبي الذي انطلق في شوارع غزة، تحت عنوان "بدنا نعيش"، أي بعد أن تدهورت الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في القطاع إلى مستويات خطيرة، مستويات تنذر بكارثة غير مسبوقة، بحيث يصبح القطاع مكاناً غير صالح للسكن الآدمي..
في هذا العدوان الغاشم، رغبتُ بتسليط الضوء على الوضع الإنساني لأهلنا في غزة، على معاناتهم اليومية، على أوضاعهم النفسية، وعلى مشاعر القلق والخوف والذعر الذي يصيبهم.. وسأفعل ذلك على لسان من يسكنون غزة، ويتعرضون لهذا الجحيم.
الناشطة الحقوقية "فاطمة عاشور" كتبت على صفحتها على فيسبوك: "أكثر من نص البلد بطالة، والموظفين إما مقطوعة رواتبهم، أو مخصوم منها، والعمّال بيطلع عينهم مقابل 10 شيكل في اليوم، والمرضى مش بيطلعوا يتعالجوا، والناس محبوسة في سجن غزة، ونحن رهائن، وماكلين هوا.. ورمضان بكره، ومحدش اشترى ولا حاجة، لأن الناس مفلسة، والكهرباء مقطوعة، وفوق كوم الزفت الي عايشينه كمان يجي تصعيد، ويخلق كوم نازحين في نص الليل، دون مأوى ودون أمل، عاريين من كل شيء، إلا من كرامتهم..".
وفي منشور آخر علقت عليه "لمى حوراني": "قبل أن تكتبوا عن غزة، وصمود أهلها، وفخركم فيهم، وكرامتكم إللي عم يحموها، وأنتم خارج غزة، فكروا بأهلها، ومعاناتهم"، في هذا المنشور كتبت فاطمة عاشور: "مش مسموح لأي أحد القصف مش نازل على راس أهله يصفق من بعيد.. مش مسموح لأي أحد مش محاصَر، مش جوعان، مش خايف، مش يائس، أن يصفق لغزة وهي بتندبح.. مش مسموح تقول: الله غزة قوية، وبتتحمل.. وكأنَّ غزة من حديد وما بتحس! مسموحلك حاجه واحده بس: أن تخرس الآن، وأنت تحصي عدد الشهداء، وعدد البيوت الي تساوت بالأرض في نص الليل، مسموحلك تخرس بس وانت تقيّم أشياء لا تقيَّم: الذكريات الي انفلتت، والأحلام الي ماتت، والأمل الي انقتل، والمستقبل الي ضاع، وضربات القلب الي زي الصاروخ من الخوف.. مسموحلك تخرس واحنا مش عارفين نهدّي رعب الأطفال، ولا نرد على أسئلتهم.. مسموحلك تخرس وأنت بتتفرج علينا.. غزة وأهلها مش عايزين حد يصفق لها".
وفي تعليق لها على منشور كتبه شخص ما، جاء فيه: "املأي الأرض ضجيجا يا غزة".. كتبت: "يا سلام على الشعارات! قلنا ألف مرة: المقاومة ليست صواريخ فقط.. والمقاومة ليست رد فعل، إنما فعل مستمر.. والمقاومة ليست مطلوبة من أهل غزة فقط.. من هو تحت الضرب ليس مثل من يتفرج.. أهل غزة الأقدر على التقييم، ونحن لا نريد تصعيد".
الأديب "محمود جودة"، كتب على صفحته: "نحن في غزة لسنا من طين المعجزات، نحن لسنا أبطالا، ولا خوارق العصر، نحن نبحث عن ساعة كهرباء ولتر سولار، وأن يرخص ثمن السجائر، وأن نستطيع علاج مرضانا، ونستطيع السفر والعيش بحرية ونيل حقوقنا القانونية كبشر تحت الاحتلال.. نحن في غزة، اُناس عاديون، نطرب للموسيقى، نكذب، نرقص، نحب الضفائر والفطائر والفُسح.. نحن بشر، نخطئ، نشتم، ونبكي، ونقترف الخطيئة، لا تنظروا إلى الأمهات اللواتي يزغردن في الجنازات، هؤلاء نسوة أفرغن الدموع زغاريد، نسوة طارت عقولهن مع أول نقطة دم سالت من أجساد أولادهم الصغيرة. نحن بشر، ولسنا من صخر، بل من طين وماء".
الناشط Ahmad R.M، كتب: "رمضان على الأبواب، والحال يزداد سوءاً، ووضع ما تبقى من المجتمع المنهك من الحصار والحروب، وسياسة التجويع، وتقنين مصادر الدخل، وسط المحاولات اليومية للهروب من كل التفاصيل، يجد الإنسان نفسه في آخر كل ليلة، لا يفعل شيئاً البتة، عاجز عن محو يوم فات، فاقد لأي أمل في يوم جديد، يهرب دوماً نحو سؤال وحيد، استطاع الفراعنة تحنيط الأموات، فكيف استطاعت غزة تحنيطنا بينما نحن على قيد الحياة"!
الطبيب والناشط فضل عاشور، والذي كثيرا ما أستنير برأيه، كتب في وصف الحال: "صوت الانفجارات تسمعها من اتجاهات ومسافات مختلفة، وأصوات الصواريخ تسمعها تمر من فوقك طوال الوقت، ومنذ الصباح أحاول أن أتصرف بلا مبالاة، وإشغال نفسي بأشياء ليس لها علاقة بالواقع في غزة.. لا توجد ضمانات لأن تبقى الأمور على هذا المستوى، فقد تتدحرج الأمور من خارج السيناريو الروتيني.. اليوم وأنا استمع لحديث المراجعين وأهاليهم، كانوا جميعهم يتحدثون عن الأمر من منظار فردي محض، وإمكانية تأثيره عليهم شخصيا وليس أكثر".
الناشط أمين عابد، كتب: "لا تساعدوا الاحتلال في إثبات روايته الكاذبة، وتسويقها للعالم. لا تعززوا هذه الادعاءات بسبب النعرات الكاذبة. مثلوا دور الضحية الذي نعيشه حقيقة، ونرفض أن نصرح به!! اسرائيل أقيمت على معزوفة الاضطهاد، ومعاداة السامية، وما زالت تمثل دور الضحية لجلب تعاطف العالم معها، ليكون مبررا لسحقنا وقتل أطفالنا، وحصارنا. شاركونا الهبد لنيل تعاطف العالم، وكشف وفضح ممارسات الاحتلال وجرائمه ضد الإنسانية".
الكاتب عبد الله أبو شرخ كتب: "تضع إسرائيل الفصائل أمام خيارين: إما القبول بمعادلة هدوء مقابل هدوء (دون تسهيلات وتفاهمات)، أو تدمير غزة على طريقة الضاحية.. في مواجهة من هذا النوع لا تمتلك غزة رفاهية الاختيار، نحن صامدون". وأضاف: "الإعلام الإسرائيلي يصدّر مشاهد مدارس الأطفال والروضات.. وإعلام فصائلنا لا يصدر إلا مشاهد إطلاق الصواريخ! يعني إثبات رسمي أننا نعتدي على دولة العلم والديمقراطية الوحيدة.. العالم لا يظلمنا بقدر ما نظلم أنفسنا بغبائنا!".
اللهم سلم غزة وأهلها.. ورمضان كريم.
[email protected]
أضف تعليق