التسريبات الأميركية لصفقة القرن ليست سوى مجسات لاختبار ردات الفعل الفلسطينية والعربية المتوقعة، ومحاولة لتخفيف صدمة المفاجأة عند طرحها بشكل رسمي في حزيران المقبل.
خلال الأسابيع الماضية نشرت وسائل إعلام أميركية وأوروبية وحتى إسرائيلية تسريبات حول الصفقة... والتسريبات المتفرقة عند تجميعها تجعل من الصفقة شبه واضحة، وإن تباينت التسريبات في بعض النقاط.
جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبير مستشاريه، تحدث أول من أمس، عن بعض تفاصيل الصفقة، مؤكداً أنها لن تأتي على ذكر حل الدولتين، وهو الحل الذي أقرته الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة، وسارت في ركبها مبادرة السلام العربية والدول العظمى، وبهذا نسفت صفقة القرن بجرة قلم جهود العالم التي بذلت على مدار عقود للحفاظ على الاستقرار واستكمال مسيرة السلام ونزع فتيل الحرب والمواجهة في منطقة الشرق الأوسط، وكأن لا قيمة للعالم وقراراته.
هذا الأمر يستوجب موقفاً دولياً حازماً للمحافظة على أسس العلاقات الدولية التي تبلورت بعد حربين عالميتين مدمرتين كي لا يعود العالم إلى زمن الهيمنة والقوة المطلقة، وبالتالي اشتعال الصراع والحروب، خاصة أن منطقتنا لا تحتاج إلا صواعق جديدة.
الشعب الفلسطيني تحل عليه ذكرى النكبة التي فقد خلالها أكثر من 78% من أراضيه في فلسطين التاريخية ولم يتبق له سوى 22% منها هي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، أي حدود العام 1967، وعلى الرغم من ذلك مد يده إلى سلام حقيقي أساسه الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وهذا هو الحد الأدنى المقبول فلسطينياً وفي الوقت نفسه الخط الأحمر الذي لا يمكن لأي كان أن يتنازل عنه مهما كان الثمن.
تجاهل إدارة ترامب حل الدولتين لا يعني بالمطلق موافقتها على حل الدولة الواحدة الديمقراطية على كل أرض فلسطين التاريخية التي يتمتع كل سكانها بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات والحكم، فالمطروح أميركياً هو إعادة تدوير السلطة الوطنية الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد جهاز خدمي كبير في مناطق محاصرة ومعزولة في الضفة الغربية أو ما يمكن أن يطلق عليه كانتونات منطقة «أ»، مع محاولة الإبقاء على شبه كيان واهن وضعيف في قطاع غزة يبحث فقط عن لقمة العيش، فهل تعتقد الإدارة الأميركية أن هذا سيمر مهما مارست من ضغوط وضربات سياسية واقتصادية.
وحول القدس يعد كوشنر للتبجح بأنها عاصمة إسرائيل وأنها أصبحت حقيقة واقعة ولا ندري ما هو مفهوم الحقيقة عند كوشنر. قطعا المفهوم الفلسطيني مغاير كلياً، فالحقيقة هي أن القدس مدينة فلسطينية عربية محتلة تحتضن المقدسات الإسلامية والمسيحية لا تنازل عن ذرة منها. وهنا قد تملك الإدارة الأميركية القوة لكي تمنح ما لا تملك لمن لا يستحق، ولكن هذا لا يخلق حقاً ولا حقيقة. وكل الاعترافات الشفوية والخطية والهدايا الأميركية المجانية للاحتلال لا تعني للشعب الفلسطيني شيئاً، فهو متمسك بثوابته.
الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967 عمل بكل قوته على تغيير واقع المدينة المقدسة، فهل استطاع إلغاء الوجود الفلسطيني منها؟ على العكس المدينة اليوم تعيش نظام فصل عنصرياً لا يمكن إخفاؤه، وستظل القدس قضية ساخنة وستظل مرشحة لانفجار كبير إذا ما استمرت إجراءات الاحتلال العدوانية بتشجيع من الإدارة الأميركية، وستظل القدس محركاً أساسياً للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على الصعيدين الفلسطيني والعربي.
كوشنر في مقابلته يعبر عن إحباطه الشديد من موقف القيادة الفلسطينية التي أعلنت رفضها الصفقة قبل أن تعرف مضمونها. ولكن اليوم يتبين للشعب الفلسطيني والشعوب العربية صواب الموقف الفلسطيني بعد التسريبات الكثيرة عن الصفقة التي أصبحت أكثر من واضحة.
إدارة ترامب تعتقد أن الحل الاقتصادي هو السر لإنهاء القضية الفلسطينية. وهي تستنسخ أفكار نتنياهو حول السلام الاقتصادي. ولكن هل تعلم إدارة ترامب ومستشاروها أن هذا المفهوم أسقطه الشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة وأصبح وراء ظهره. عندما هتف أطفال فلسطين في الانتفاضة الأولى «الجوع ولا الركوع»، والفلسطيني الذي توقف عن الأكل والشرب لأكثر من 100 يوم في زنازين الاحتلال يستطيع أن يصمد عشر سنوات بالحد الأدنى من لقمة العيش دون أن يتنازل عن الثوابت.
للأسف مواقف الإدارة الأميركية سواء بالنسبة للقدس أو وكالة الغوث أو الاستيطان أخرجتها نهائياً من دور الوسيط، وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى أي مبادرة منها، وبعد وقف كل المساعدات التي كانت تقدمها للفلسطينيين في عهد الإدارات السابقة كيف ستتمكن واشنطن من إقناع حتى أطفال فلسطين بأفكارها. أما ما تحدث عنه كوشنر عن قبول بعض رجال الأعمال الفلسطينيين الإطار العام للصفقة فهو واهم. ولم نسمع ولن نسمع عن أي فلسطيني سيخرج عن إجماع الشعب.
صفقة القرن والإجراءات العدوانية الإسرائيلية المتوقعة على هامش الصفقة مثل ضم المستوطنات وجزء كبير من مناطق «ج» هي وصفة لإشعال فتيل الانتفاضة الثالثة، ولكن على شكل مغاير للانتفاضتين الأولى والثانية، وقد تستمر سنوات، حتى بعد رحيل ترامب وكل مستشاريه، وستدفع المنطقة كلها نحو المواجهة وربما الحرب، ولن يعاني الشعب الفلسطيني وحده، لأن الإسرائيليين سيعانون أيضاً إذا لم يتحركوا لوقف هذا الجنون؟
[email protected]
أضف تعليق