لا أضيف شيئا جديدا بالقول أن الشهيد أبو جهاد هو من أهم أعمدة الثورة الفلسطينية الحديثة، فهو ليس فقط عسكريا ومهندسا ومشرفا لأهم العمليات البطولية ضد الاحتلال، بل أيضا الإنسان السياسي والدبلوماسي الذي أسس لمدرسة نضالية فريدة خرجت مناضلين كتبوا بتضحياتهم الكلمات الاولى لمعنى النضال والتضحية والصلابة والحكمة في مواجهة الاحتلال ومن وقف معه.
تعرفت على أخي وصديقي خليل الوزير وكان ذلك بعد عرسه بوقت قليل(بعد شهور من اعلان استقلال الجزائر في اواخر عام 1962 ) وقبل الإعلان عن انطلاقة الثورة الفلسطينية بأشهر معدودة، وكانت بدايات هذه العلاقة في بلد المليون شهيد "الجزائر" حيث كُنت أعمل حينها في إحدى الشركات التي تعمل في مجال التنقيب عن النفط، واستمرت هذه العلاقة حتى وقت استشهاده عام 1988، وشاركت في جنازته كواحد من أكثر من مليون مُشيّع أتوا لوداع قائد قل أمثاله ورجل آمن بقضيته حتى ارتقى من أجلها شهيدا، فوطن يحوى مثل هؤلاء الرجال حتما سينال الحرية وسيدحر الاحتلال.
واحد وثلاثون عاما على رحيل جسد الشهيد خليل الوزير "أبو جهاد"، وأكثر من ثمانية وخمسون عاما مضت منذ أن تعرفت عليه، وقرابة ستة وخمسون عاما مضت على لقائي به حين اتى إلى مكتبي برفقة الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات. كان الشهيد ابو جهاد هو من عرفني بالقائد ياسر عرفات عام 1963، ففي احد الأيام، في ذلك العام، وبينما كنت جالساً في مكتبيدخل "أبو جهاد" عليّ ومعه رجل وقدمه لي أبو جهاد بأن اسمه ياسر عرفات.
لم أرتح له في البداية لان لهجته كانت مصرية أكثر منها فلسطينية(مع احترامي و حبي الشديد للاخوه المصريين)، ويبدو أن عرفات شعر بذلك فقال لي: "شو القصة... مالك مش مرتاح؟"، فأجبت (بأنني تذكرت أحد أبناء عمومتي الذي زار القاهرة لمدة أسبوع، وعاد إلى نابلس ليتحدث بلهجة مصرية طوال حياته... فضحك عرفات وقال لي: لا ... لا ... الحكاية أنني منذ شبابي المبكر أعيش في مصر". بعدها استقبلتهما بشكل دوري في بيتي ومكتبي في العاصمة الجزائر، ونشأت بيننا صداقة من نوع خاص، واندمجت أكثر بمايعملون عليه في تأسيس "حركة وطنية" معاصرة هدفها الأسمى تحرير فلسطين، (وكان الرمز ابو عمار عندما يقدمني لاحد كان يقول بانني من نظمته لفتح – وهذه دلالة على المحبة) وكان أبو جهاد يستثمر تنقلاتي الكثيرة بين البلدان العربيةحيث ان الطائره كانت تقلني من الجزائر لتونس ثم طرابلس القاهمره و منها لبيروت و عمان حيث كنت تقريبا مرتين لثلات مرات شهريا اتنقل بهذه الجوله و أيضا البلدان الأوروبية حيث كانت رحلاتي لباريس مرتين اسبوعيا ومنها لباقي الدول الاوروبيه لنقل رسائل وترتيب لقاءات وغيرها من المهمات ذات العلاقة بتنظيم انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث وجدت بأبي جهاد الإنسان الوطني الصادق المتفاني في انتمائه لقضيته ولشعبه.
ومن ضمن ذكرياتي مع أخي الشهيد أبو جهاد أنه وفي ذات يوم في اوائل العام 1964، دخل "أبو عمار" و"أبو جهاد" إلى مكتبي في العاصمة الجزائرو برفقتهم شابين و هم الأخ المرحوم حمدان عاشور، والأخ محمد أبو ميزر (ابو حاتم) وقالوا أن الاخ المرحوم أحمد الشقيري (ابو مازن) موجود في الجزائر، وأنهما يرغبان بلقائه فذهبنا معا. وفي اللقاء مع المرحوم احمد الشقيري حيث تم تعريفه عن حركة العاصفة النضالية والتي تم تسميتها بحركة فتح لاحقا، واثناء الحديث اخبرنا انه كان بزياره للضفه الغربيه للتعرف على شخصيات الوطنيه في البلاد وان من اجتماع الشخصيات الوطنيه في مدينه نابلس كان في منزل المرحوم نشات المصري ابن عمري ابو الطاهر، تحدث "أبو عمار"، بطلبات محددة تركزت على الدعم المعنوي والمادي للحركة،وكان يتحدث بحرارة وحماس، احتد النقاش لعدم تجاوب ابومازن لطلبات ابو عمار والاستهتار بكلامه ، وقال أبو عمار للمرحوم ابو مازن في نهاية حديثه: "بعد عشر سنوات على الأكثر ستسمع صوتي وكلامي هذا عن القضية الفلسطينية من أعلى المنابر في العالم كله، نحن ثوار ولدينا برنامج نضالي".
في تلك اللحظات خالجني شيء من المبالغة فيما يقوله الرمز ياسر عرفات، لكن تأكدت بعد مرور عشرة سنوات على تلك الحادثة أن الرمز ياسر عرفات كان يتحدث برؤية عميقة وببعد نظر عندما رأيته يوم 13/11/1974 على شاشة التلفزيون يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ممثلا لمنظمه التحرير بزيه العسكري المعهود و كوفيته المميزه حيث قال (لا تسقطوا خصن الزيتون من يدي)، وزاد إيماني يومها بأن هذا الرجل وأخيه ورفيق دربه المرحوم "أبو جهاد" بهما من الصفات وبعد النظر والانتماء لا تتوفر لغيرهما من القادة.
بقيت علاقتي القوية مع أبو عمار ومع أبو جهاد، بعد رجوعي إلى الأردن، وهما أيضا قدموني لجميع كوادر حركة فتح المناضلة، الذين كانوا متواجدين بشكل أساسي مع قوات الثورة الفلسطينية في الأردن. وبعد وقوع أحداث أيلول عام 1970، والتي أدت إلى خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن. مع هذه الأحداث كلف المرحوم جلالة الملك حسين المرحوم وصفي التل بتشكيل حكومة جديدة، وعرض عليّ وصفي التل تولي وزارة الأشغال العامة، لإعمار ما دمرته الاشتباكات والمعارك في عمان والأردن خلال الأشهر السابقة خلال حرب ايلول، طلبت مهلة للتفكير، ولدقة الظروف قررت مشاورة الرمز ياسر عرفات في الأمر، وحين عرضت الأمر عليه بحضور أبو جهاد وبعض الأصدقاء والمقربين سارع إلى القول: لا تتردد يا (أبو ربيح) - منيب, انا بانتظارك في عمان، وأيده "أبو جهاد" وأبو إياد في وجهة نظره،. وفعلاً وافقت، وعينت وزيراً للأشغال العامة، وكان شرطي أن لا آخذ راتبي كوزير". واعتبرت هذه الوظيفة فرصة لتقريب وجهات النظر بين المقاومة الفلسطينية واشقائهم الاردنيين. و الشرط الاخر ان استقيل بعد انهائي بناء ما تم هدمه من حرب ايلول .
هذه الحادثة تؤكد أن الشهيد أبو جهاد كان ينظر إلى مصلحة الشعب الفلسطيني والعربي وخاصة الاردن الشقيق "ككل" من زاوية كيف يمكن تسخير كل الطاقات لخدمته وصون حقوقه وكرامته، فعلى الرغم من دقة وحساسية المرحلة التي أعقبت أحداث أيلول إلا أن بعد نظر القائد أبو جهاد ونظرته إلى طبيعة العلاقة التاريخية التي تربط الشعبين الأردني والفلسطيني حتمت عليه أن يكون من داعمي استمرار هذه العلاقة وتضميد الجراح والسير نحو حُقبة جديدة في هذه العلاقة.
الكثير الكثير يُمكن قوله في سيرة هذا القائد، وليس أفضل من اطلاق مبادرة لتوثيق مرحلة الشهيد خليل الوزير ومساهماته في إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، والتركيز على شخصه كإنسان صنع من اللجوء ثورة، ستبقى على خطاك وستبقى ذكراك فينا.
[email protected]
أضف تعليق