أوردت صحيفة "لوبوان" الفرنسية مقالا حول النظرة السائدة في الأوساط السينمائية والأدبية حول المستقبل، وغلبة الأفكار المتعلقة بالآلات المتطورة والتكنولوجيا، على حساب قضايا مصيرية ستواجهها البشرية، مثل ظاهرة تغير المناخ وحتمية نضوب الموارد الطبيعية، وهو ما يعكس قصورا في التفكير والإبداع، وخلطا بين مفهومي الابتكار والتكنولوجيا، بحسب عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي السويسري نيكولاس نوفا.
وقالت الصحيفة إن شاشات السينما شهدت في العام 1982 ظهور فيلم "بليد رانر"، الذي يحكي قصة مجموعة من الروبوتات العضوية المعدلة وراثيا، التي تنشط في مستعمرات خارج الأرض. والآن بعد مرور 37 عاما، لا تزال الآلات والتكنولوجيات التي ظهرت في ذلك الفيلم راسخة في الأذهان، على أنها النموذج الوحيد الذي يمكن تخيله حول المستقبل القاتم والفاسد الذي ينتظر البشرية.
وأضافت الصحيفة أنه إلى اليوم، رغم عدم ظهور سيارات طائرة في الشوارع، فإن جميع الأفلام التي تتنبأ بالمستقبل، والرسوم والروايات، لا تزال تتضمن أشياء مماثلة، وهو ما يعتبره البعض قصورا في الإبداع والخيال لدى مؤلفي هذه الأعمال؛ إذ إنه بعد مرور أربعة عقود على ظهور ذلك الفيلم، لا يزال الناس يتخيلون المستقبل على أنه سيارات طائرة وقطارات أسرع من الصوت، وكأن المستقبل يعني فقط غلبة الأنظمة التكنولوجية.
وذكرت الصحيفة أن نيكولاس نوفا، الأستاذ في مدرسة الفنون والتصميم في جنيف، والمتخصص في أنثروبولوجيا الثقافات والتقنيات الرقمية، تناول في كتاباته هذا الخلل المخيالي الذي أصاب الوعي العام للناس، وتساءل حول السبب الذي يجعلنا اليوم، في وقت يغزو فيه إيلون ماسك أغلفة المجلات العلمية، لا نزال نشعر بالحنين إلى مستقبل قاتم وعبثي.
وحول هذه الظاهرة، يقول نيكولاس نوفا، إن كل أشكال التعبير عن المستقبل التي تظهر في الأعمال الأدبية والأفلام والرسومات، والتي تتكون عادة من آلات تكنولوجية عملاقة، تعكس ضعفا إبداعيا، وتحجب بعض الأفكار الخلاقة الموجودة على الأرض؛ إذ إن هذه الرؤى المستقبلية التي توجه الاهتمام نحو السيارة الطائرة والإنسان الآلي، تكرس النظرة المبسطة والمكررة للمستقبل، وتنسينا مختلف السيناريوهات المتنوعة التي يمكن أن نواجهها في المستقبل، وهي سيناريوهات لن تكون بالضرورة مركزة على عرقية أو دولة معينة، ولا مرتبطة بمسار محدد.
ويرى نيكولاس أن هذه الرؤى تعطل التفكير الإبداعي في المستقبل، وتؤدي إلى تقديم حلول جاهزة، دون التفكير فعلا في الأوضاع الحالية التي يمر بها العالم. كما أن هذه الحلول لا تهتم فعلا بالمشاكل التي يمكن أن تظهر في المستقبل في حال تحقق هذه الرؤى المستقبلية المبسطة.
وتساءلت الصحيفة حول ما إذا كان هذا الأسلوب في تصوير المستقبل يؤدي لتعطيل التفكير في الرهانات البيئية التي تنتظر البشرية وتهدد وجودها، وبشكل خاص ظاهرة الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
ويرى نيكولاس نوفا أن أطروحات المستقبل في الأفلام والأعمال الأدبية، نادرا ما تتطرق لسلامة البيئة وسلامة الجنس البشري، ورغم أنه في بعض أعمال الخيال العلمي تم فعلا طرح المسائل البيئية، ولكنه يبقى أمرا نادرا؛ إذ إنه في أغلب الحالات، يتم تصوير المستقبل بشكل قاتم، مع التركيز على عرض الأدوات التكنولوجية المتطورة، دون أي تفكير في استدامة تلك الأوضاع أو كيفية التوصل لصناعة تلك الآلات.
واعتبر نيكولاس أنه بالنظر إلى الأبحاث التي أجريت حول تأثير البشر على المناخ خلال العقود الأخيرة، فإن فكرة الهايبرلوب على سبيل المثال، التي تتمثل في نظام نقل عالي السرعة يعتمد على الطاقة الشمسية، ويتكون من أنابيب خالية من الهواء تتحرك داخلها كبسولات لنقل الركاب، هي فكرة يتم دائما عرضها وتقديمها على أنها الحل للتغير المناخي، وهو طرح سخيف وغير واقعي.
ويؤكد الباحث أن هذا الطرح يمكن تشبيهه بنظرية نهاية التاريخ التي قدمها الفيلسوف فرانسيس فوكوياما، حيث يمكن اعتبار أن نهاية تاريخ التقنية سوف تتمثل في تطور خطي للحالة الراهنة، مع تواصل استخراج المواد الأولية من باطن الأرض، وهو طرح يعيد للأذهان قانون مور، ويتجاهل العديد من العوامل، خاصة حتمية انتهاء الموارد في كوكب الأرض.
ودعا نيكولاس إلى عدم الخلط بين مفهومي الابتكار والتكنولوجيا، كما لو أن الابتكار والتجديد غير ممكنين خارج مجال الأبحاث والابتكارات التكنولوجية، وهو أمر غير صحيح؛ إذ إن العديد من الإنجازات التي حققتها البشرية، على غرار إرساء نظام الضمان الاجتماعي، يمكن اعتبارها تطورات مفصلية.
وأكد الباحث أن الرهان الحقيقي في المستقبل، هو إيجاد توازن في علاقتنا مع الكوكب والمحيط. لأن المستقبل لن يكون بالضرورة مرتبطا بالتكنولوجيا، بل يمكن أن يكون مراوحة بين التقنيات المتطورة والتقنيات البسيطة، والتفكير دائما في البدائل.
وأشارت الصحيفة إلى أننا أصبحنا نعيش في زمن يتم فيه تحديد البدائل بشكل آلي، وإسناد مسألة اتخاذ القرارات إلى خوارزميات ومعادلات، على غرار عملية اقتراح المواد المعروضة في خدمة المشاهدة المدفوعة "نيتفليكس".
واعتبر نيكولاس نوفا أن مثال نيتفليكس يدعو إلى التساؤل حول ما إذا كان هذا النظام الذي يعتمد على تحليل تجاربنا السابقة ليقترح علينا أفلاما إضافية، يجب أن يكون هو النظام الوحيد المعتمد. ويقترح هذا الباحث توفير بدائل أخرى، مثل نظام يقدم مقترحات بشكل عشوائي تماما؛ حيث إن هذه الأنظمة الذكية التي تتخذ القرارات بشكل آلي، سواء تعلق الأمر باقتراح مطعم أو فيلم، هي في النهاية تكرس الأوضاع القائمة دون أي تنويع أو تجديد.
المصدر: عربي 21
[email protected]
أضف تعليق