نيوزيلندا، أبعد منطقة في الكرة الأرضية، بعيدة جدا، بعيدة حتى عن أستراليا، وهي دولة مزدهرة اقتصاديا، ومستقرة سياسيا منذ زمن، وتركيبتها الاجتماعية متطورة ومنفتحة على العالم، ومن النادر أن نسمع عنها خبرا.. ولولا بعدها لكانت المكان المفضل للاجئين والهاربين من الاضطهاد، ومن مناطق الصراع والفقر.. ومع ذلك، وصلها الإرهاب والتعصب.
في يوم الجمعة 15 آذار، وفي أثناء الصلاة في مسجد النور، في مدينة كرايست، ترجل شخص مسلح من سيارته السوبارو، واقتحم المسجد، وبدأ إطلاق النيران من رشاشه على المصلين بشكل عشوائي، ما أدى إلى مقتل نحو خمسين مصليا على الفور، وإصابة عشرات غيرهم، دون أي مقاومة من طرف الضحايا، فهم في مسجد، أتوا للصلاة، تملؤهم مشاعر السكينة والطمأنينة، في بلد مسالم ينعم بالأمن، وليس في بالهم أن قاتلا حاقدا يتربص بهم.
اسم القاتل "برينتون تارانت"، وهذا ليس مهما، أبواه بريطانيان، يقيمان في أستراليا، وهذا أيضا ليس مهما.. المهم أن هذا القاتل كان مصمما على جريمته، وقد خطط لها جيدا، وارتكبها بدم بارد، وقد بثها على الهواء مباشرة، وكان قبل ارتكابه المذبحة قد نشر بياناً على "تويتر" يتوعد بالانتقام!
وقد سجل المجرم تفاصيل المجزرة من خلال كاميرا مثبتة على خوذة فوق رأسه، حيث بدأ التصوير من لحظة وصوله إلى المسجد، في مشهد يشبه تماما مشاهد ألعاب الفيديو التي تقوم على فكرة قتل أكبر عدد من الأعداء المفترضين.. وهذه التقنية، أي محاكاة ألعاب القتال، تعتمدها القوات الأميركية والإسرائيلية في تدريبها الجنود على اقتحام الأماكن، حيث يتخيل الجندي أنَّ كل من هم في أرض المعركة من بشر مجرد أرقام يجب تحطيمها.. ففي اللعب لا ضير من قتل مئات الأعداء الافتراضيين، لن يلومك ضميرك على ذلك، فهم مجرد أرقام، ومع المحاكاة، وأثناء التنفيذ الحقيقي على الأرض، يتحول البشر تلقائيا إلى مجرد أرقام، لا مشكلة في التخلص منها.. وهذا ما يدعى بشيطنة العدو ونزع الإنسانية عنه، أي التعامل معه وكأنه ليس إنسانا، وعندما تتعامل مع "شيء"، أو شيطان، يصبح التخلص منه، أي قتله، مسألة في غاية البساطة؛ بل ضرورة أخلاقية.
هكذا فعل متعصبو قبائل "الهوتو" في رواندا، حينما وصفوا خصومهم من قبائل "التوتسي" بالصراصير.. من يكترث لقتل صرصور.. وبهذه الطريقة تم تنفيذ أبشع مجزرة تطهير عرقي في إفريقيا، راح ضحيتها نحو مليون إنسان خلال مائة يوم. القتلة أردوا "تطهير" البلاد من القبائل الأخرى، لتكون متجانسة إثنيا.. هكذا يتم تبرير الجريمة.
في النرويج، بينما كان حزب العمّال يستضيف مخيما للشبيبة (تموز 2011)، نفذ شخص متطرف مجزرة مروعة بحقهم، راح ضحيتها نحو 77 قتيلا ومائة جريح، القاتل مواطن نرويجي أصولي، من اليمين المسيحي، يحمل أفكارا متعصبة ضد المهاجرين، وكان يريد تطهير البلاد من لوثة ورجز المهاجرين.. أيضا، هكذا يتم تبرير الجريمة.
قبل ذلك، في آب 1969 اقتحم سائح أسترالي متصهين، يدعى "مايكل روهان" المسجد الأقصى وأضرم فيه النار، وبعد أن ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض عليه، ادعت أنه مجنون، ثم رحّلته إلى أستراليا؛ حيث ما زال يعيش هناك، وليس عليه أي أثر للجنون، سوى جنونه بالتعصب وبخرافات التاريخ. وفي شباط 1994 اقتحم مستوطن يهودي يدعى "باروخ غولدشتاين" الحرم الإبراهيمي في الخليل، وفتَحَ نيران رشاشه على المصلين وهم ساجدون في صلاة الفجر، فقتل منهم العشرات، وبعد ذلك بعدة سنوات فتَحَ مستوطن يهودي آخر نيران رشاشه بشكل عشوائي على المارين في إحدى أسواق مدينة الخليل، فقتل وجرح العشرات، وعند اعتقاله برّر جريمته: بأن أباه "إبراهيم" كان قد اشترى الخليل من سكانها ببضعة شواكل قبل نحو أربعة آلاف سنة!! وطبعا لو سألنا "باروخ" - وهو طبيب عاش في أميركا - عن دوافعه لارتكاب المذبحة، لأجاب دون تردد بأن أباه "إبراهيم" قد بنى هذا المعبد، وأوصى به خصيصا له، وعليه أن يتخلص من هؤلاء الدخلاء والغرباء الذين يتعبدون فيه بكل وقاحة!! في كل مرة نجد نفس التبرير للجريمة. تطهير الأرض من الأعداء.. وهذه المرة أضاف المجرم مجموعة من الرسائل المشفرة، التي تطفح بصور من التاريخ الاستعماري الأوروبي، حاول السفاح تمريرها، ليكون مشهد القتل مبررا، مستندا للمقدس الديني، لذا اختار المسجد ووقت الصلاة لارتكاب المجزرة.
طبعا، لنزع إنسانية العدو، وشيطنته، يتوجب توصيفه بأبشع الصفات، وإلصاق كل التهم فيه.. ودائما تقف منظمات متطرفة وراء حملات التحريض على الخصوم.. ودائما تكون الكراهية والأحقاد المحرض الأول.. فطالما هناك تعصب (ديني، أو قبلي، أو تعصب لأي شيء) يكون الحقد، ويكون الإرهاب.. وتكون الجرائم والمجازر.
الإرهاب والتطرف وارتكاب المذابح والقتل جرائم بشعة، وهي ليست مقترنة بدين معين، فقد ذكرنا أمثلة (حديثة) عن الإرهاب "المسيحي"، والإرهاب "اليهودي".. وبالتأكيد ثمة أمثلة لا حصر لها عن الإرهاب "الإسلامي".. أو بعبارة أدق الإرهاب المنسوب للمسلمين.. أو الإرهاب التي تمارسه عصابات وميليشيات دينية متطرفة وتزعم أنه قتال في سبيل الله.
جريمة مسجد النور في نيوزيلندا، جريمة بشعة بكل المقاييس، ويتوجب إدانتها بكل اللغات.. كما يتوجب التعاطف مع كل ضحايا الإرهاب بصرف النظر عن أصولهم وأديانهم، أي بوصفهم بشرا.. قتلى مسجد نيوزيلندا هم ضحايا التعصب وحملات التحريض اليميني على المهاجرين والأجانب وبشكل خاص المسلمون، ونتيجة عمليات "التنميط" التي تربط (بالتعميم) بين مجموعة سكانية معينة وبين ظاهرة ما، كما يتم ربط المسلمين بالإرهاب، ونتيجة أسطورة "الإسلام فوبيا"، التي يتم تضخيمها لأغراض سياسية وأيديولوجية، والتي للأسف تجد ما يغذيها من خلال ممارسات بعض الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة.
خطاب الكراهية، والتعبئة الإعلامية ضد الإسلام، وتخويف العالم من المسلمين، وصعود الفاشية في أميركا وفي المجتمعات الأوروبية، وسيادة الأساليب الشعبوية في الإعلام، بالإضافة لتوفر الألعاب الإلكترونية التي تشجع على العنف والقتل، والسينما الأميركية التي تعتبر القتلة أبطالا.. كل هذه عوامل إضافية قادت للمجزرة، وطالما هذه العوامل موجودة، وطالما هنالك تحريض وتطرف وتعصب، حتماً ستقع مجازر أخرى.
التعصب والكراهية هما دين الإرهاب.
[email protected]
أضف تعليق