جمعة وحيدة أخيرة تفصل مسيرات العودة عن الذكرى السنوية لانطلاقتها في مثل هذا الشهر من العام الماضي، جرت خلال العام الذي مضى الكثير من الأحداث والتطورات، فيما صارت المسيرات طوال كل الفترة، كأحد "تقاليد" العمل السياسي/الشعبي، باعتبار أنها ظلت في حالة حضور دائم كل يوم جمعة، دون أن تتوقف أو أن تنطفئ، ولكن أيضا دون أن يحدث لها تطور أو تصاعد حاسم، بانتظار العام الثاني، حيث سيتضح إن كان مستوى المسيرات سيبقى على ما هو عليه في انسياب ماء النهر، أو انه سيشهد تصاعدا يجعل منه ماء بحر يلفظ موجه العاتي كل دخيل أو محتل، فيغرق كل من يعترض طريقه.
من الطبيعي بل من البديهي لو كانت مسيرات العودة حركة سياسية شعبية مستقلة عن حركة حماس، أو على الأقل إطارا جبهويا جامعا لمجموع أو لمعظم فصائل العمل الوطني المتواجدة في قطاع غزة، أن تجري قياداتها أو القائمون عليها، أو حتى الفصائل أو مؤسسات المجتمع المدني "مراجعة" شاملة لها، بمناسبة مرور عام كامل على انطلاق تلك المسيرات يكون من شأنها أن تصوب المسار وتتصاعد به من أجل تحقيق هدفها أو جملة أهدافها التي انطلقت أصلاً قبل عام من أجل تحقيقها .
حتى اللحظة لا يبدو بأن هناك من قام أو أعلن عن القيام بمثل ذلك الفعل، بما يؤكد بأنها من بدايتها حتى نهايتها لم تكن أكثر من توظيف سياسي آني أو حتى يومي لنظام حكم الأمر الواقع في قطاع غزة، من أجل الإبقاء أولا على حكمه، وثانياً من أجل تحسين ظروف ذلك الحكم، والإبقاء على حكمه يعني باختصار شديد هو إغلاق أبواب إنهاء الانقسام بالمعنى الحقيقي والتام للكلمة، وهذا أمر قد تحقق فعلا، أما شروط تحسين ظروف ذلك الحكم فما زالت تراوح مكانها خاصة فيما يخص الشأن الشعبي العام، لذا فإن هذا هو السبب الحقيقي الذي يبقي على منسوب تلك المسيرات وفق صيغة "لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم ".
هناك تصريحات من بعض شركاء حماس في غزة تبشر بتصعيد في منسوب المسيرة وذلك بمناسبة يوم الأرض، لدرجة القول بأن يوم الثلاثين القادم من هذا الشهر سيكون يوما حاسما في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، دون توضيح التفاصيل بالطبع، والتقدير يشير إلى أن ذلك ربما يكون بشكل احتفالي، ذلك أن الأسابيع القادمة، إنما هي "وقت ميت" في معادلة العلاقات السياسية بين حماس وإسرائيل التي تشبه عض الأصابع، ولكن أصابع القدم وليس أصابع اليد، ذلك أن الطرفين يدرك كل منهما "حدود" ما هو ممكن وما هو مستحيل في مستوى ذلك العض، الذي يخدم كليهما سياسيا دون تحطيم أدوات اللعبة بينهما المستمرة منذ اثني عشر عاما، وقد كان بنيامين نتنياهو واضحا تماما، حين أعلن قبل أيام عن أن الإبقاء على حكم حماس إنما هو مصلحة إسرائيلية الهدف منها الإبقاء على حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي.
أي أن التفاوض عبر الوسيط الثالث أو عبر الوسطاء حول ملف التهدئة سيبقى قائما، دون اختراق مع تقديم جزرة هنا وجزرة هناك، متمثلة بالسماح بمرور الدولار القطري لجمهور حماس في قطاع غزة، دون التعامل الجدي مع تفاهمات التهدئة ذاتها، التي تطالب بها حماس، وذلك إلى ما بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية في التاسع من نيسان القادم، وحتى إلى ما بعد تشكيل الحكومة القادمة.
وحماس تدرك أن أي تصعيد في ظل انتخابات إسرائيلية حامية، قد يدفع اليمين الإسرائيلي بهدف الإبقاء على حظوظه في الحكم، إلى القيام بعملية عسكرية ضد القطاع، تزيد من تعقيد الأمور على الأرض، فيما الوضع المفضل لديها هو البقاء على الوضع الحالي، بانتظار تشكيل الحكومة الفلسطينية من جهة والحكومة الإسرائيلية من جهة ثانية، حيث أنها ستعاود بعد تشكيل حكومة (م ت ف) الوطنية القول بأنه لا الحكومة ولا السلطة تمثلها، بما يبقي لها الباب موارباً للتقدم بالتفاوض الأمني ومن ثم السياسي مع إسرائيل، ومن جهة ثانية تشكيل الحكومة الإسرائيلية التي إذا ما كانت مناسبة لإدارة دونالد ترامب لإعلان صفقتها الصريحة، قدمت الجزرة الكبرى لحماس لعلها تنخرط في المحفل السياسي المنوي عقده لتدشين تلك الصفقة.
حماس تدرك أيضا بأن كل حديث صفقة ترامب في الجانب الفلسطيني يخص تحسين الأحوال المعيشية لقطاع غزة، وهذا ستعتبره "ثمنا" مجانيا مقابل حفاظها على الانقسام طوال كل تلك السنوات، فيما سيكون الثمن السياسي بعد ذلك ما تسميه هي كسر الحصار، وبالتالي إقامة "دولة غزة" على الأرض، بطريقة ستمكنها من أن تقوم بتسويقها على قاعدة أنها لم تقدم "اعترافا" صريحا بإسرائيل مقابله، بل إن ذلك الاعتراف قد يكون لاحقا من قبل حكومة دولة غزة!
ولا يفوت حماس أيضا القول بأنها لم تقم ولا بأي شكل من الأشكال بتصعيد المقاومة الشعبية في الضفة الغربية ولا القدس، بل أنها بعدم انخراطها في إستراتيجية المقاومة الشعبية في الضفة الغربية قدمت كل ما يلزم من دلائل تمنحها مكانا في ترتيب إقليمي ما، لكن كل ذلك منوط بما يحيط بها، وهي الحركة التي "أدمنت" فتح الأبواب على الجميع دون إغلاقه إلا أمام الطرف الآخر الداخلي، نقصد بذلك محاولات إيران الإبقاء على التأثير على بعض مستويات حماس خاصة جناحها العسكري الذي تحول مع الوقت إلى قوة جيش أو قوة أمن داخلي أكثر منه مقاومة، بل ومتوافقا من حيث لياقته الداخلية مع المستوى السياسي لحركته كحزب حاكم.
وهذا ما يفسر تصريحات بعض شركاء حماس ممن هم أقرب لإيران وحلفائها التصعيدية ضد إسرائيل، لكن ذلك يظل كلاما، فالكلمة الأولى في قطاع غزة ما زالت لحماس، التي بالطبع تفضل دائما الذهاب لمن يحقق مصلحتها الحزبية أولا وأكثر من غيره، وما من شك بأنها لم تعد تضع بيضها كله في سلة قطر ولا تركيا ولا إيران، فهي تبقي على الخيوط مع مصر وقطر لتفتح لها الأبواب مع إسرائيل ومع تركيا لتظل تقول بكسر الحصار ومع إيران ما أمكن لتلوح بورقة "المقاومة" التي لم تعد مقاومتها، بل مقاومة الحلفاء المحليين بغزة، الذين يدعمون حكمها مقابل إبقاء هامش ميداني لهم، بما يحقق في النهاية مصلحة حماس ولا أحد آخر غير حماس.
[email protected]
أضف تعليق