منذ سنوات لم يحالف التوفيق حركة فتح في اختياراتها الداخلية، كما حدث هذه المرة حين اختارت رئيس حكومة م ت ف، وكأن خطورة اللحظة وضعت الجميع أمام مسؤولية عالية، جعلتهم يقومون بتنحية «طموحاتهم الخاصة والفردية» وتغليب المصلحة الوطنية العليا التي طالما حملتها حركة فتح بتاريخها العظيم على أكتافها، ورغم أن الحديث يجري عن واحدة من أهم «المناصب» في السلطة والقيادة الفلسطينية، إلا أن حركة فتح نجحت أولا في اختيار مرشحها دون أن نسمع عن أي خلافات أو تباينات أو حتى عقد صفقات أو «تربيطات» أو مساومات، أو ما إلى ذلك، وثانيا اتفقت مركزية فتح بأعضائها دون وجود الرئيس محمود عباس شخصيا، والذي عادة ما يكون وجوده الشخصي هو الجامع الذي يحول دون أن «يشطح» الأعضاء بأفكارهم أو أن يظهروا كثيرا من رغباتهم الفردية أو نزعاتهم الذاتية.
هذا بحد ذاته إنجاز عظيم، من الواضح أن تحمل المسؤولية الوطنية كان سببا في تحقيقه، ثم ثانيا، كان واضحا أيضا أن الهدف من تشكيل الحكومة القادمة، حكومة فصائل م ت ف كان واضحا أمام قيادة حركة فتح، لذا فإنها اختارت «رجلا» مناسبا تماما، لتلك المهمة، بسجل أبيض ناصع، هو محل إجماع داخل الحركة وحتى داخل المجتمع الفلسطيني، يجمع بين ما اتصفت به حكومات حقبتي السلطة، حقبة حكومات م ت ف خاصة في المرحلة الأولى قبل تشكيل المجلس التشريعي الأول العام 1996، ومرحلة التكنوقراط التالية، خاصة تلك التي تشكلت ما بعد انقلاب حماس وانفصالها بحكم غزة منذ العام 2007 وحتى الآن.
وهكذا سيكون د. محمد اشتية رئيس الوزراء الفلسطيني الخامس منذ تولي الرئيس محمود عباس المنصب لأول مرة بعد استحداثه العام 2003، أي بعد كل من الرئيس عباس والسيد احمد قريع، وكانا من حركة فتح وكل من د. سلام فياض ود. رامي الحمد لله من المستقلين/التكنوقراط، لتحدث بذلك حالة من التوازن في رجل يجمع شخصية المناضل والأكاديمي/المهني، ليناسب جدا مرحلة فاصلة، من مسار العمل الوطني، لا نبالغ لو قلنا إنها محطة انتقال ما بين مرحلتين، تضع حداً لمرحلة ذهبت إلى طيات التاريخ ومرحلة قادمة، نريدها أن تكون فلسطينية بامتياز.
يمتاز الرجل بالهدوء والعقلانية، كذلك هو رجل اقتصاد، حيث سبق له أن شغل منصب وزير الإسكان ورئيس بكدار، وطوال نحو عشر سنوات، أمضاها كعضو لمركزية فتح، لم يسجل عليه أنه كان طرفا في خصومة داخلية، بل حافظ على رباطة جأش المناضل العنيد، في الوقت الذي يعتبر فيه كفاءة قيادية كمحاضر وأكاديمي، وجوده إلى جانب الرئيس سيعني تصحيح مسار الحكومة بحيث تجمع بين مهماتها السياسية «كلجنة تنفيذية ثانية» ومهامها الخدمية في تحقيق الخدمات العامة التي يحتاجها الشعب الفلسطيني.
قد لا نبالغ لو قلنا، إن اختيار د. محمد اشتية كرئيس للحكومة وكممثل أول لحركة فتح في الحكومة القادمة، يعتبر تحديا للفصائل التي وافقت حتى اللحظة على المشاركة في التشكيل الحكومة، فهي مطالبة بأن تحذو حذو فتح، وتختار ممثليها من الكفاءات التي تجمع بين الكفاءة المهنية والصورة النضالية، كذلك أن تختار رجالا تاريخهم أمامهم وليس وراءهم، أي أنهم ما زالوا «شبانا» ولديهم ما يقدمونه، وليس أن كل أو جل ما لديهم قد قدموه بالفعل.
بهذه المناسبة نحن نظن بأن الفصائل، ستقوم بتقديم أمنائها العامين كمرشحين، للمناصب الوزارية، وهكذا فإن ذلك سيعني أن معظم الوزراء سيشغلون مناصبهم على أساس «سياسي» فيما سيضعف عنصر الكفاءة الضروري لتفعيل عمل كل وزارة من وزارات الاختصاص المهني.
المهم أن اختيار اشتية كرئيس للحكومة يعني أن الخطوة العملية الأولى على طريق تشكيل الحكومة قد اتخذت، ولم يعد الأمر لا تهديدا ولا تحذيرا، وأنه ليس مرهونا بالنجاح في إجراء انتخابات المجلس التشريعي الثالث، والتي إن جرت أو لم تجر، فإن الأمر سيان، حيث إن حل التشريعي الثاني قد بات أمرا واقعا، وتشكيل هذه الحكومة الفصائلية سيكون على أساس أن مرجعها هو المجلس المركزي، وبالتالي فإن حركة فتح تكون قد «كسرت» لأول مرة حركة حماس في صراع الأيدي، حيث أدمنت حركة حماس اشتراط التوافق للتعجيز ولشل كل خطوة لا تعجبها ولا تكون على مقاسها، وما هي إلا أيام ويتم الإعلان عن التشكيل الحكومي الجديد، ومن ثم ممارسة أعماله التي ستجمع ما بين البرنامج السياسي لـ م ت ف والمهمات الخدماتية.
في الحقيقة فإن إعلان حكومة الفصائل يعني أن برنامجها وحتى تشكيلها سيكون أقرب كما اشرنا لحكومات ياسر عرفات ما قبل تشكيل المجلس التشريعي الأول التي كانت تضم أمناء عامين للفصائل التي وافقت مبكرا على اتفاق أوسلو، وهذا يعني أنه بعد أن طوت إسرائيل اتفاقيات أوسلو منذ العام 1996 حين انتخب بنيامين نتنياهو لأول مرة كرئيس لحكومتها، فإن فلسطين تطوي صفحة تلك المرحلة هذا العام 2019 بتشكيل حكومة فصائل م ت ف.
لكن المفارقة الغريبة هنا، هي رفض حماس لهذه الحكومة، وتمسكها بحكومة أوسلو ما يعني أن حماس ترفض أوسلو بالمقال وتتمسك بها في واقع الأمر، بل حتى إنها تتطلع إلى صفقة سقفها أهبط بكثير من أوسلو وهي صفقة القرن أو حتى اتفاقية التهدئة التي صار مضمونها «مسيرات العودة مقابل 20 مليون دولار شهريا»!
بقي أن نقول، إن التحديد النهائي لبرنامج عمل وللإطار العام لسياسة حكومة د. محمد اشتية سيتحدد على ضوء اختيار الإسرائيليين بعد أقل من شهر لحكومتهم القادمة، وإن كانت ستكون حكومة اليمين العنصري أم حكومة اليمين والأمن، وفي كل الأحوال هناك تدشين فعلي لمرحلة جديدة في كفاح الشعب الفلسطيني، يزاوج ما بين مهام جبهة التحرر والكفاح الميداني والقانوني وعلى كل الأصعدة والمستويات، والذي يكون فيه الرئيس قائداً والوزير مناضلاً، والكل يجمع بين الوطنية والمهنية، في تكامل ما بين الشعب والقيادة، بعد إزالة كل مظاهر البيروقراطية التي ظهرت خلال السنين الماضية من عمر سلطة الفترة الانتقالية، والتي رافقت التكنوقراط.
[email protected]
أضف تعليق