ما تتفق عليه الغالبية العظمى الجزائرية هو أن الحراك الذي يشهده الشارع منذ أسابيع، يتجاوز الحكم والمعارضة على السواء. فحوالي 70% من المحتجين هم تحت الثلاثين من العمر الذين نشأوا بعيداً عن الانقسامات التقليدية السابقة بين الأحزاب السياسية أو بين التيارات العقائدية المتصارعة خلال "العشرية السوداء" ولا تبدو يداً خفية في الداخل أو في الخارج تحرّك هذه الاحتجاجات لإثارة الفوضى الأمنية ضد السلطة ولا جسراً لعبورأطماع قوى خارجية إلى النيل من الجزائر.
لعل الجزائر تتميز عن بعض بلدان العالم الثالث، بأن الثورة الوطنية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي لا تزال متّقدة في الذاكرة الخصبة لعموم الجزائريين وهي الحصن الحصين الذي يردع فرنسا والدول الغربية الأخرى عن محاولة التدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية. ففرنسا تعلّمت الدرس أثناء احتجاجات "حزب الثقافة والديمقراطية" في تيزي أوزو، أن التدخل يثير غضباً عارماً وعدائية صلبة. وفي هذا السياق يُعلن رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب أن فرنسا لا تتدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية، لكي يطمئن ربما أربعة ملايين جزائري في فرنسا ولكي يثير الالتباس عن تصريح وزير خارجيته جان إيف لودريان بشأن دعوة فرنسا للاستقرار والأمن والتنمية في الجزائر.
المتحدث باسم الخارجية الاميركية روبرت بالادينو أثار عاصفة احتجاج رداً على تصريحه بأن واشنطن تدعم الشعب الجزائري وحقه في التظاهر السلمي. وقد اضطرت المعارضة بأسرها أن تتبرأ من شبهة السكوت عن الرجس الاميركي، ولا سيما في هذا الوقت الذي تسعى فيه الادارة الاميركية للقضاء على القضية الفلسطينية في صفقة القرن والتدخل العسكري في فنزويلا، وفي وقت تتضح فيه فداحة جرائم التدخل الغربي وأشكاله الذرائعية في سوريا والعراق وليبيا وغيرها.
الجزائر المحصّنة من التدخل الخارجي، محصّنة أيضاً من أن تؤدي الصراعات الداخلية إلى مخاطر تهديد الدولة والمجتمع. وقد زادتها محنة "العشرية السوداء" حصانة عبّر عنها تماسك المؤسسة العسكرية وعدم تصعيد الانقسامات الداخلية، حين أنهى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مهام الرجل القوي في الاستخبارات العسكرية الجنرال محمد مدين (توفيق) في العام 2013 وفي العام 2016 حين أنهى خدمات خمسة ضباط كبار بينهم اللواء عبد الغني مالطي والجنرال بومدين معزوز، على اعتبار أن بوتفليقة لا يقبل بأن يكون ربع رئيس. وعلى الرغم من الانشقاقات المتعددة في حزب جبهة التحرير الحاكم، لم تصل الخلافات إلى الانقلاب على الشرعية الوطنية وسلطة الحكم.
هل الاحتجاجات هي حركة عفوية من دون أيادي سياسية خارجية أو داخلية؟ ما هو مؤكد بالدليل الظاهر والعميق أنها ليست حركة مطلبية ونقابية بحسب ما هو معرف عن العديد من الحركات الاحتجاجية العفوية التي تتسم برد الفعل العفوي ضد السلطة كظاهرة مستمرة حتى أواخر القرن العشرين. واللافت المستجد أن العديد من الظواهر التي يمكن وصفها بأنها عفوية، تنطلق من منطلقات جديدة معقّدة في رفضها سياسات السلطة والمعارضة على السواء في أشكال الحكم وفي مقاربتها لأزمة البطالة والفقر ومحاربة الفساد وفي رؤاها السياسية. وهي بغالبيتها تطمح إلى رؤى وآفاق أرحب من الانقسامات السياسية التقليدية بين السلطة والمعارضة، أو بين أجنحة الطبقة السياسية في صراعها على السلطة. في هذا الاطار يمكن مقاربة حركة السترات الصفر في فرنسا، والاحتجاجات الشعبية في السودان أو الاحتجاجات في الاردن بنسب مختلفة. ولعلّ هذا الأمر يدلّ على أن الاتهامات التي يطلقها البعض على وصف شعوبنا بالجهل والتخلّف عن مواكبة المتغيرات والتطورات، هي اتهامات تعكس تحجّر النخب السياسية والثقافية في مقاربتها لوعي الشعوب.
لكن الاستقرار الأمني في الجزائر قد يكون مهدّداً على المدى الأبعد إذا لم تنتهِ الأزمة السياسية الحالية بحلول jjjفتح آفاق تدعيم الاستقرار ومشاركة المجتمع الجزائري في الاتفاق على رؤى مشتركة. وفي هذا الاتجاه ربما لا تعوّل أحزاب المعارضة على دور مؤثر مثلما لا يعوّل الحراك عليها. فالأحزاب الكبرى التي اجتمعت للتداول باسم مرشح مشترك، لم تتفق على شيء يما بينها بحسب إشارات علي بن فليس وعبد الرزاق مقري وعبد الله جاب الله. بل تتفق على المطالبة بتأجيل الانتخابات والانجرار وراء الحراك في الشارع.
ولا يبدر من الحكم ما يدلّ على قبوله تأجيل الانتخابات وإعلانه شغور منصب الرئاسة. وفي هذه الحال من المرجح استمرار الحراك بزخم تراجعي وبشكل متقطع إلى ما بعد الانتخابات لكن السلطة تفقد الكثير من شرعيتها ونفوذها ما يفتح الباب على احتمالات غير منظورة. ففي أغلب الظن أن المرحلة الانتقالية التي وعد بها الرئيس بوتفليقة، هي مرحلة حرجة للتنافس بين جناحي السلطة حيث من المرجح أن يحسمه الرئيس لخلافته.
الجناح الأول يمثله مستشار الرئيس الخاص سعيد بوتفليقة الذي أضعفه الرئيس العام الماضي بتحية قائد الناحية العسكرية الأولى اللواء حبيب شنتوف وقائد الناحية العسكرية الثانية سعيد باي. لكن هذا الجناح يظل الأقوى بين التحالف الحاكم الذي يرفض العودة إلى نفوذ المؤسسة العسكرية، على الرغم أنه جناح يستند إلى خليفة الجنرال توفيق في قصر الرئاسة وهو اللواء عثمان طرطاق ( بشير) على رأس المديرية العمة للاستعلام التقني.
الجناح الثاني يمثّله رئيس الأركان أحمد قايد صالح الذي عقد معه الرئيس بوتفليقة "عهد الوفاء الأخلاقي" في العام 2004 حين وقف إلى جنبه ضد رغبة رئيس الأركان الراحل محمد العماري. ومما لاشك فيه أن التنافس بين الجناحين لا يخرج إلى السطح ولا يتحوّل إلى صراع قبل المرحلة الانتقالية التي يسعى الرئيس إلى حسمها في اتجاه أو آخر. أو يخلق الله أمراً كان مفعولا.
[email protected]
أضف تعليق