بعد أن كانت تقديرات المراقبين والمتابعين للشأن الإسرائيلي الداخلي لا تشير إلى متغير حقيقي لحظة الإعلان عن تبكير موعد الانتخابات البرلمانية قبل بضعة أسابيع، وذلك بسبب من "استقرار" اليمين الإسرائيلي ومركزه الرئيسي متمثلاً بحزب الليكود، وحتى برئيسه بنيامين نتنياهو، سارت الأمور وبشكل متسارع في اتجاه آخر، لتظهر قائمة انتخابية منافسة، شكّلها ثلاثة من جنرالات الجيش السابقين، إضافة إلى حزب "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لابيد، الذي كان خلال الدورتين السابقتين بمثابة الحزب الثالث من حيث التمثيل البرلماني.
ومنذ أن ألقى بيني غانتس خطابه الانتخابي الأول، بدأت استطلاعات الرأي تمنح قائمته "أزرق_أبيض" التي تشير إلى ألوان العلم الإسرائيلي تقدماً على حزب الليكود نفسه، بما يعني أنه لو أن الأمور سارت على هذا النحو، بعد شهر من الآن، فسيصار إلى تكليفه بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، لكن بقي الاحتمال أن يفشل في ذلك، نظراً لأن فوز القائمة الانتخابية بأكبر عدد من المقاعد لا يعني تلقائياً نجاح رأس القائمة بتشكيل الحكومة، وذلك لأن الأمر منوط بقدرته على حشد الأغلبية في الكنيست للتصويت لها، في أول جلسة برلمانية لاحقة.
ولأن اليمين ما زال معروفاً بأحزابه التي تشمل الأحزاب اليمينية التقليدية والأحزاب الدينية، إضافة إلى ما بات يعرف منذ دورتين سابقتين باليمين المتطرف المستند إلى قاعدة المستوطنين الانتخابية، في الضفة الغربية والقدس، فيما قائمة الجنرالات ليست محددة الطابع، فهي بالقطع ليست قائمة يسارية ولا حتى بمكونها "اللابيدي"، فإن القراءات حتى اللحظة تضع كل ما هو ليس من شركاء الليكود، ضمن التشكيل المحتمل.
أي بقراءة أخرى، فإن توقع من يفوز بتشكيل الحكومة، نتنياهو أو غانتس، سيكون محكوماً، ليس فقط بمن من قائمتيهما ستفوز بأكبر عدد من المقاعد، بل بتوزيع المقاعد على كل القوائم الانتخابية المتنافسة، بما في ذلك القائمتان العربيتان.
ما زاد من "دراماتيكية" التنافس هذه المرة، هو أنه بعد مرور أسابيع قليلة، بدأ يظهر "توازن انتخابي" بين إجمالي الكتل، ما بين اليمين مع اليمين المتطرف، من جهة، وكل ما هو غير ذلك من جهة أخرى، أو ما بات يعد "يسار الوسط " في الخارطة السياسية الداخلية الإسرائيلية.
وإذا كان آخر حدث متعلق بقرارات المستشار الحكومي تجاه قضايا الفساد المتهم بها نتنياهو قد قالت بأن ذلك لم يؤثر كثيراً على نوايا التصويت لدى الناخب الإسرائيلي، حيث قال نحو 82% بأن الأمر لن يؤثر على نيتهم بالتصويت لهذا أو لذاك، فان نسبة الـ 18% التي يمكن أن تتأثر باحتمال استجواب نتنياهو تبدو مهمة، بل وحاسمة، نظرا لحالة التوازن القائمة حالياً.
ومن الصحيح أيضاً القول، أولاً بأن استطلاعات الرأي لا تعتبر تصويتاً، خاصة حين تكون التقديرات متقاربة، كما أن أربعة أسابيع قادمة قد تعني الكثير، إلا أن ما كان يعد أمراً شبه محسوم لليمين ولليكود ولنتنياهو قبل نحو شهرين لم يعد كذلك اليوم.
وفي الطريق إلى ذلك، ربما تكون التأثيرات الخارجية مؤثرة لدرجة الحسم، لكن هناك احتمالاً مهماً جداً أن يؤخذ بعين الاعتبار وهو عودة معادلة الحكومة_المعارضة داخل إسرائيل، هذه المعادلة التي اختفت منذ نحو عقدين من السياسة الداخلية، فلو خرج اليمين من الحكم، فإنه سيظل ذا وزن وتأثير داخلي، إلا إذا كان الرئيس الجديد قوياً، مع أن اعتماده على ائتلاف انتخابي وليس على حزب قوي لا يشير إلى ذلك، ولو بقي اليمين في الحكم، فإن تحالف الجنرالات مع لابيد قد يحل مكان حزب العمل وحتى كاديما في السنوات الماضية، كمعارضة قوية، وربما أيضاً تعود ظاهرة تحكم الأحزاب الصغيرة في التشكيل الحكومي، استناداً إلى توازن الحزبين، كما كان الحال في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مجدداً، لذا فإن إسرائيل، قد لا تكون قوية داخلياً لاتخاذ قرار "تاريخي" من مثل صنع السلام، أو شن الحرب الإقليمية الواسعة التي ستعني مواجهة عسكرية متعددة الجبهات، تستمر لسنين طويلة قادمة.
ما يهمنا هنا هو ما يمكن أن يكون عليه موقف الحزبين تجاه الشأن الفلسطيني، فإذا كان "برنامج الليكود واليمين" معروفاً، ويكاد ينحصر في "صفقة ترامب" ورفض حل الدولتين، فإن السؤال هنا يدور حول موقف غانتس/لابيد، أو "حزب أزرق_أبيض" وإن كان مختلفاً ولو بدرجة قليلة فيما يخص الصراع الإسرائيلي_الفلسطيني.
المشكلة تكمن هنا في أن البيت الأبيض ورغم إعلانه عن أن خطته الإقليمية باتت جاهزة، إلا أنه لم يعلن عنها، ولو كان قد فعل لتحولت الخطة إلى موضوع للجدل الانتخابي، بما يفرض على كلا الحزبين الالتزام لاحقاً بما كانا قد أعلنا عنه من موقف تجاهها، لكن عدم الإعلان عنها، يعني بأن واشنطن تنتظر الفائز في الانتخابات لتقرر أولا إعلانها من عدمه، وفي حالة الإعلان أن تعلن عنها كما هي أو تقوم بتعديلها.
أي أن إعلان واشنطن عن خطتها للحل الإقليمي والشكل النهائي لها سيكون منوطا بأدوات تنفيذها وفي مقدمة هذه الأدوات الحكومة الإسرائيلية القادمة.
منذ الآن وقبل يوم الاقتراع هناك خلاف داخل قائمة غانتس/لابيد، التي تضم مرشحين من اليمين ومرشحين من اليسار، فموشيه يعلون الوزير السابق من الليكود ضد حل الدولتين فيما عوفر شيلح من "يوجد مستقبل" يؤيد حل الدولتين، وهذا الخلاف بين جناحي القائمة فرض موقفاً ضبابياً في برنامج القائمة السياسي، ارتكز على تجنب القول بحل الدولتين بالحديث عن مؤتمر إقليمي لدفع الانفصال عن الفلسطينيين، حسب ما أعلنته صحيفة يديعوت أحرونوت مؤخراً.
مجمل القول إن هناك "مخاضاً سياسياً" عسيراً في انتظار حكومة الجنرالات في حال فوزها، والأمر سيبقى مرهوناً بالجانب الآخر، الفلسطيني وحتى الإقليمي، لكن إن بقيت الأمور الفلسطينية والعربية والإقليمية على ما هي عليه، فإن غانتس سيكون نتنياهو آخر في زي عسكري، لا أكثر ولا أقل.
[email protected]
أضف تعليق