على إثر اجتماع قادة الفصائل الوطنية في موسكو، والذي تم بدعوة من روسيا، بهدف إنهاء الانقسام، تقدم "مركز الاستشراق الروسي" بصيغة مقترحة لبند في البيان الختامي، وهذا نصه: "يتوجه المشاركون بالتحية والتقدير لروسيا على دعمها وتأييدها لكفاح الشعب الفلسطيني، تحت راية منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". هذا البند تحديداً اعترضت عليه حركة الجهاد الإسلامي، و"حماس"!
النص عبارة عن توجيه التحية والشكر لروسيا، إذا لم يكن على ما قدمته للشعب الفلسطيني، أو على ما يمكن لها أن تقدمه مستقبلاً، فعلى الأقل شكرها لرعايتها الاجتماع. ولكن من الواضح أن الفشل الفلسطيني لم يكن فقط في تفويت فرصة ذهبية للاستفادة من الدور الروسي، الذي من الممكن أن يوازن الدور الأميركي، سيما أن أميركا تعقد في نفس التوقيت مؤتمر "وارسو"، الذي يهدف لخلق عدو جديد للعرب بديلاً عن إسرائيل (إيران). الفشل الأهم هو الإصرار على إعادتنا في كل مرة إلى المربع الأول، وطرح قضايا للنقاش من المفترض أنه تم حسمها فلسطينياً وعربياً ودولياً منذ زمن بعيد، وأهمها مسألة تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
المستغرب أن الرفض جاء من "الجهاد الإسلامي"، حليفة إيران (تجنباً لقول تابعة إيران، أو أداتها)، ووجه الغرابة أن إيران حليفة روسيا في الأزمة السورية، وحليفتها في مواجهة أميركا في المنطقة، خاصة بعد تراجع "ترامب" عن تسوية الملف النووي، وفرض عقوبات أميركية على إيران. وبالتالي من المفترض دعم أي مبادرة روسية من شأنها فرض نوع من التوازن للدور والهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط.
إذاً، الذي فشل في موسكو ليس فقط إخفاق الفصائل الفلسطينية في التوصل لإعلان مشترك، بل هو في ما تمثل من نتائج عن هذا المؤتمر الفاشل، أي تدخل أطراف إقليمية أرادت توجيه رسالة لموسكو، مفادها أن روسيا ليس بوسعها أن تتصرف بمفردها في الشرق الأوسط، بمعزل عمّا تريده أميركا وحلفاؤها، فيما يخص ترتيبات المنطقة والإقليم سواء في فلسطين أو سورية أو لبنان، وبالتالي الذي أفشل هذا البيان يعمل لإفشال الدور الروسي في المنطقة والعالم، وكأنه يصب في طاحونة ما تسعى له الولايات المتحدة (حتى لو أنه لم يقصد ذلك، فهذه ليست أول مرة يغيب فيها الذكاء والحكمة عن الأداء الفلسطيني).
الأكثر غرابة أن دائرة الرفض اتسعت لتشمل قوى أخرى (الفصائل التي رفضت التوقيع بحجة تضامنها مع "الجهاد" هي: حماس، الصاعقة، القيادة العامة، الجبهة الشعبية)، وهذا معناه أن الخلاف ليس على صياغات لغوية، إنما خلاف ناجم عن حالة الاستقطاب الإقليمي.
كان ممكناً استحضار صيغ سابقة وقع عليها جميع الأطراف: وثيقة الوفاق الوطني 2005، الورقة المصرية 2009، اتفاق القاهرة 2011، الدوحة 2012، الشاطئ 2014، القاهرة 2017.. في هذه الاتفاقيات كان يتم التأكيد كل مرة على ما بات يعرف بالثوابت الوطنية: وحدانية تمثيل المنظمة، الدولة الفلسطينية، حدودها، عاصمتها، حق العودة..إلخ. إذن، لماذا هذه المرة نعيد طرح النقاش لأمور سبق الاتفاق عليها؟ ألا يعد هذا نكوصاً وتراجعاً؟ بدلاً من استثمار الفرصة، وتجاوز المصالح الحزبية، من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، وتمتين الموقف الفلسطيني لمواجهة خطة السلام الأميركية الجديدة، والمعروفة بـ"صفقة القرن".
الجديد في الأمر، اتخاذ موقف صريح من حماس والجهاد الإسلامي برفض الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وهذا ينسجم مع نهج حماس السابق، بفرض نفسها بديلاً عن المنظمة، أو على الأقل الطعن بشرعية تمثيلها.
النقاط الخلافية في البيان تتعلق بمسألة القدس، حيث طلب البعض استخدام عبارة "دولة فلسطينية عاصمتها القدس"، دون ذكر حدود العام 1967، فيما رفض البعض عبارة "الشرعية الدولية"، لأنهم لا يعترفون بها، وعارض آخرون الحديث عن "حق العودة" لأن ذلك اعتراف بدولة إسرائيل في المضمون؛ فالعودة ستكون لداخل الخط الأخضر، الذي تحتله إسرائيل.
هل يُعقل أنه بعد كل هذه السنين، ما زلنا نختلف على أبحديات العمل السياسي في الساحة الدولية؟! احتاجت حماس ربع قرن من الزمان، حتى تنضج سياسياً، وتطور خطابها الإعلامي والسياسي كما جاء في "وثيقة حماس 2017"، هل سننتظر ربع قرن آخر حتى تستوعب حركة الجهاد الإسلامي اشتراطات العمل السياسي في الساحة الدولية، وقواعده العامة؟! على الأقل أن تميز بين أيديولوجيتها الحزبية، وخطها النضالي وبرنامجها السياسي الخاص بها كفصيل وطني فلسطيني، وبين الخطاب الإعلامي المطلوب من منظمة التحرير.
هل تريد الفصائل الرافضة استمرار لعبة التمويه والخداع للشعب؟ في الخطاب الإعلامي تطالب بتحرير كل فلسطين، وعلى أرض الواقع لا يستطيعون مغادرة معبر رفح دون موافقة إسرائيلية مسبقة؟ تطالب بدعم العالم لها، وترفض الاعتراف بالشرعية الدولية! تريد عبارة "دولة فلسطينية عاصمتها القدس" دون ذكر حدود العام 1967؛ هل تتوقع أن العالم ساذج وأهبل، كي نخدعه بعبارات فضفاضة، وبخطاب مزدوج؟ هذه ليست سوى فذلكات خطابية، ومزايدات ممن لا يريد تحمل المسؤولية الوطنية بشجاعة.
[email protected]
أضف تعليق