ربما لا يتذكر المشاركون في مؤتمر وارسو أن العاصمة البولندية كانت مقرا لما سمي بحلف وارسو، وكان منظمة عسكرية تشكلت العام 1955 مكونة مما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي وعدد من دول أوروبا الشرقية التي كانت تتبع النظام الشيوعي السابق، وذلك كرد على تشكل حلف «الناتو» المكون من الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الأوروبية العام 1946، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، من أجل تعزيز ما سمي مصالح الغرب، وهو في الحقيقة محاولة لإعادة السيطرة على ما كان يسمى العالم الثالث خاصة، بعد ظهور الكابح الدولي المتمثل بالمعسكر الاشتراكي الذي ناصر حق شعوب العالم الثالث في الحرية والاستقلال، ومنع الدول الرأسمالية من إعادة السيطرة على تلك الدول بعد الحرب.
مشاركة نحو أربعين دولة في مؤتمر وارسو، فيما يترأس الوفد الأميركي نائب الرئيس مايك بنس إضافة بالطبع إلى وجود جاريد كوشنير ضمن الوفد الأميركي يعني بأن الأهداف من عقد مؤتمر وارسو أبعد بكثير من محاولة إيجاد قوة دفع لصفقة القرن، أو حتى من جمع ائتلاف دولي مناهض لإيران، رغم أن هذين هما بندان سيتم طرحهما على جدول أعمال المؤتمر، لكن الهدف الأهم من عقد المؤتمر كما قال مسؤولون أميركيون بأنفسهم هو محاولة تعويض النقص في الوجود أو التأثير الأميركي في وسط أو ربما شرق أوروبا، تلك البلاد التي كانت قد منّت النفس عبر إسقاط الأنظمة الشيوعية والالتحاق بركب النظام الرأسمالي الذي ما زالت تقوده الولايات المتحدة، برفاهة العيش، وها قد مرت ثلاثة عقود دون أن يتحقق شيء، سوى المزيد من الفقر والخراب والنهب الرأسمالي الغربي.
وربما أيضا تحاول الولايات المتحدة أن تقطع الطريق على الأصوات التي بدأت في طرح فكرة تشكيل قوة دفاع مشترك من قبل الاتحاد الأوروبي، الذي لم يخرج في سبيله لتحقيق الوحدة الأوروبية من مجالي الاقتصاد والسياسة حتى اللحظة.
غني عن القول إن الصين قد دخلت المجال الأوروبي من بوابة الاقتصاد، حيث تجد البضائع الصينية في كل بلد أوروبي خاصة في شرق ووسط أوروبا الأقل قدرة اقتصادية من غربه وشماله، فيما تزداد قوة ونفوذ روسيا العسكرية خاصة في شرق القارة العجوز، وقد ظهر هذا في أكثر من ملف، لعل ما حدث إبان الأزمة الأوكرانية خير دليل على ما نقول.
لكن لابد من مدخل أو عنوان تحاول واشنطن عبره التعمية على هدفها الرئيسي من هذا المؤتمر، ونحن هنا في الشرق الأوسط نقوم بتسليط الضوء على ما يهمّنا من بنود ستطرح في هذا المؤتمر، حيث يهمنا كفلسطينيين ما سيقول به كوشنير من حديث عن صفقة العصر، وما سيطرحه الوفد الأميركي من إثارة لمخاوف الأوروبيين مما يسميه الخطر الإيراني، ليقنع الحاضرين بضرورة تشكيل تحالف جديد ربما يشكل حلقة ثانية من حلف «الناتو»، أو توسيعا له، ولأهدافه.
أما لماذا تضفي واشنطن على المؤتمر صفة الأمن، فذلك يعود لأكثر من سبب، من ذلك محاولة إعادة «الروح» لحلف «الناتو» الذي فقد بريقه وقوته بعد أن كان يستمد ذلك من تحالف واشنطن مع كل من بريطانيا وفرنسا، ومع وجود «التهديد الأمني» المتمثل بالمعسكر الاشتراكي، ومنها تعويض الانكفاء الأميركي من عدة أماكن في آسيا وإفريقيا، فالولايات المتحدة لم تعد تقنع حتى الكوريين الجنوبيين بقدرتها على حمايتهم من تهديد الشمال الكوري، بما يدفعهم لمحاولة التوصل لحل بين الكوريتين، كذلك من الشرق الأوسط بعد قرار انسحابها بعد هزيمتها في الملف السوري، وقرب خروج قواتها من أفغانستان، كذلك عدم جدوى بقاء قواتها في العراق، وكذلك عدم فاعلية نفوذها في إفريقيا التي ما زالت تشكل فرنسا القوة الأساسية فيها بما في ذلك ليبيا ووسط وغرب القارة السمراء، وهكذا لم يبق أمام واشنطن سوى «حديقتها الخلفية» متمثلة بأميركا اللاتينية، حيث تغريها فنزويلا بثروتها النفطية، وأوروبا الشرقية بفقرها، وبكون القارة العجوز الحليف التقليدي للدولة العظمى.
سيظهر الوفد الأميركي أن صفقة القرن ما هي إلا محاولة لتأمين الأمن لدولة إسرائيل، من أجل الحفاظ على المصالح الاستعمارية لهذا المعسكر الغربي التقليدي، وأن «حل» الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، من خلال إقامة حلف أمني عربي/ إسرائيلي يحقق هدف صد الخطر الإيراني في المنطقة، وأن هذا الهدف يجب أن يقوم به «أهل الدار»، أي الدول العربية نفسها، من خلال تمويل المشاريع التي ما هي إلا الجزرة أو الكعكة المسمومة في هذه الصفقة، أي محاولة الدفع بدول الخليج للانخراط في تنفيذ صفقة تصفية القضية الفلسطينية من البوابة الدولية بعد أن فشلت واشنطن أولا في إيجاد شريك فلسطيني، وبعد أن فشلت أيضا في إيجاد عرّاب عربي، لم تجده لا في القاهرة ولا عمان ولا الرياض، لتمرير هذه الصفقة.
ثم لماذا طرح اسم إيران، فلأن واشنطن أجبن من أن تقول صراحة إن روسيا أو الصين مستهدفة، هذا أولا، وثانيا لأن أوروبا بقيادة ألمانيا وفرنسا، أي بقيادة الاتحاد الأوروبي، الذي جعل من بروكسل عاصمة له، وهي التي كانت مقر حلف «الناتو»، لم تنخرط مع إدارة دونالد ترامب في التنصل من الاتفاقية مع إيران حول ملفها النووي، وبإثارة المخاوف أو إشاعتها حول الخطر الإيراني على أوروبا الشرقية، تسعى واشنطن للضغط على دول المركز في الاتحاد الأوروبي، من أجل إجهاض طموحهم في التحرر من التبعية السياسية لواشنطن ومن أجل انخراطهم في خطتها لفرض المقاطعة الاقتصادية على إيران، وحتى لو تطلب الأمر أجل الانخراط معها في حرب تشبه الحرب الثلاثينية التي كانت قد شنتها على العراق العام 2003.
كل ذلك ما هو إلا محاولات أميركية لإعادة عصر السيطرة العسكرية أو السيطرة بالقوة الأمنية على العالم، لكن النجاح أو الفشل ليس منوطا بما تحاوله واشنطن وإنما بالرد من قبل الكثير من الأطراف والقوى والدول المستهدفة، حيث لا نستبعد أن يكون الرد على ما تحاول الولايات المتحدة إقامته من أحلاف عسكرية بتشكيل تحالفات أو تشكيلات موازية أو مقابلة، بما يعني العودة لسياسة الاستقطاب الكوني من جديد، بما ينتهي بإقامة ربما أكثر من قطب دولي، وليس بالضرورة أن يقف في وجه أميركا قطب دولي وحيد.
[email protected]
أضف تعليق