الخِطاب الذي أدلَى بِه مايك بومبيو، وزَير الخارجيّة الأمريكيّ، في الجَامعة الأمريكيّة في القاهرة هو إعلان حَرب ضِد إيران وأذرُعِها العَسكريّة في المِنْطَقة، وخاصَّةً “حزب الله”، ومُحاوَلة يائِسَة لتَحسين صُورَة بلاده في الشرق الأوسط، وطَمأنة الإسرائيليّين بأنّ أمريكا ستَعمَل على احتِفاظ دولتهم بالقُدُرات العَسكريّة التي تُمَكِّنها مِن الدِّفاع عَن نفسها ضِد “النَّزعَة العُدوانيّة المُغامِرة للنِّظام الإيرانيّ”، واختِياره القاهِرة والجامعة الأمريكيّة فيها، وليسَ الرياض لشَرح السِّياسَة “الشَّرق أوسَطيّة” الجَديدة لبِلاده، جاءَ مَقصُودًا ومَحسوبًا بدِقَّةٍ، لتَعميدِها رأس حِربَة في هذه السِّياسة.
أخطَر ما قاله وزير الخارجيّة الأمريكيّ في رأينا هو “يجب أن ننتقل من مرحلة “احتِواء” إيران إلى مرحلة “مُواجهتها”.. وإنّ عَهد التَّقاعُس الأمريكيّ انتَهى وسنَمنَع تَمَدُّد النُّفُوذ الإيرانيّ في المِنطَقة”، فهذه لُغَة تَعكِس “سيناريو حَرب” مُعَد سَلَفًا، وقَد يَكون مَوعِدُ التَّنفيذ اقْتَرَب.
الانتِقال مِن مَرحلة الاحتِواء إلى مرحلة المُواجَهة ومُطالَبة دول حِلف “النِّاتو العَربيّ السنيّ” الثَّمانِيَة للتَّوحُّد، ونِسيان خِلافاتِها القَديمَة استِعدادًا، لا يَعنِي إلا أمْرٌ واحِدٌ هو اللُّجوء إلى الخِيار العَسكريّ.
لا نَعرِف ما إذا كانَت هذه التَّهديدات هِي مِن أجل الضَّغْط على إيران للعَودة إلى مائِدة المُفاوضات لتَعديل الاتِّفاق النوويّ الذي انتَقَده بومبيو بشِدَّةٍ، وِفْق الشُّروط الأمريكيّة الإسرائيليّة، أم أنّه خِيارٌ نِهائيٌّ جَرى اتِّخاذُه، وزِيارَته الحاليّة في المِنطَقة هِي لتَوزيعِ الأدوار على الحُلَفاء.
***
“حِزب الله” يحتل المَرتبة الثَّانية في الاستِهداف الأمريكيّ بعد إيران، حَسب ما يُمكِن استخلاصُه مِن ثنايا خِطاب وزير الخارجيّة الأمريكيّ، ولا نَستبعِد أن تَشهَد المَرحلة المُقبِلة الوَشيكة تَحَرُّشات إسرائيليّة عَسكريّة وأمنيّة بالحِزب، وهذا يَبدو واضَحًا مِن قوله “حزب الله له وجود كبير في لُبنان ولن نَقبَل بذلك كأمْر واقِع″، وقال أيضًا “سنَعمل على تقليل تَهديد تَرسانَة حزب الله الصاروخيّة على إسرائيل بتَزويدِها بالأسلحةِ اللَّازِمَة في هذا الصَّدَد”.
وإذا كانَ بومبيو أكَّد أنّ الرئيس دونالد ترامب سيَمضِي قُدُمًا في سَحب القُوّات الأمريكيّة مِن سورية، فإنّه أكَّد في الوَقتِ نفسه أنّ هذا الانْسِحاب لا يَعنِي تَوقُّف الغارات الجَويّة ضِد قُوّات “الدولة الإسلاميّة” (داعش)، والجُملة اللافِتَة الإضافيّة التي ذَكَرها تُؤكِّد دعْم التَّدخُّل العَسكريّ الإسرائيليّ في سورية في المُستَقبل المَنظور حيثُ قال “ندعم جهود إسرائيل لمَنع تحويل سورية إلى لُبنان آخَر”، في إشارةٍ واضِحةٍ إلى القُوّات الإيرانيّة المُتواجِدَة على الأرضِ السوريّة.
كانَ مُضْحِكًا أن يَصِفْ وزير الخارجيّة الأمريكيّ بِلاده بأنّها “ليسَت قُوّة احتِلال وإنّما قُوّة خير وتَحرير في الشرق الأوسط”، وكأنّه يُخاطِب هُنا شُعوبًا أُمِّيّةً جاهِلةً ذاكِرَتها قصيرة، ألمْ تحتل أمريكا العِراق، وتُدَمِّر ليبيا، واليَمن وأفغانستان، واعتَرف الرئيس ترامب بأنّ بلاده أنْفَقَت 7 تريليون دولار في المِنطَقة، وهل فَعَل الخَير الذي يتَحدَّث عنه هو قتْل ثلاثَة ملايين عَراقيّ وأكثَر مِن 30 ألف ليبيّ، ومِليون أفغاني؟ وهَل التَّحرير هو ما نَراه مِن فوضَى دَمويّة في أكثَر مِن أربَعِ دُوَلٍ عَربيّةٍ، على رأسِها سورية وليبيا والعِراق واليَمن؟
الوزير بومبيو مارَسَ كُل أنْواع الكَذِب والتَّضليل في خِطابِه هذا عِندَما قال إنّ انسِحاب أمريكا يُؤدِّي دائمًا إلى الفَوضى بعده، ويتَناسى أن كُل التَّدخُّلات العَسكريّة الأمريكيّة في المِنْطَقة هِي التي زرَعت الفَوضى والقَتل، وبَذَرَت بُذور التَّطرُّف، وصَعَّدت مِن العُنف والإرهاب، وكرَّسَت النَّزَعات الطائفيّة والانْفِصاليّة، فمَاذا قدَّمَت أمريكا للشُّعوب السوريّة والعِراقيّة والليبيّة واليَمنيّة غير الدَّمار، هل أنفَقَت مَلياراتها على بِناء المَساجد والكنائس والمُستَشفيات والجامِعات، أمْ لتَدميرِ البُنَى التَّحتيّة، ونَشْر المَجاعات والأمراض الفَتّاكة نَتيجَة استِخدام اليُورانيوم المنضب وغيره؟
***
لا نَعرِف ما إذا كانَ وزير الخارجيّة الأمريكيّ سيَكتَفِي بدَعوةِ حُلفائِه القُدامى الجُدد في الخليج إلى حَلِّ خِلافاتِهم القَديمة، وهو هُنا يقْصِد حتْمًا الأزَمَة الخليجيّة الحاليّة، أمْ أنّه سيَعمل على التَّدخُّل بقُوَّةٍ لفَرضِ حُلولٍ لها، لحَشدِها لمُواجَهة التَّهديد الإيرانيّ، فمِن الواضِح أنّ إنْهاء هذه الخِلافات يحْتَل مَكانَةً بارِزَةً في جَدولِ أعمال جولته الحاليّة، ولكنّ السُّؤال هو كيفَ ستَكون هذه الحُلول، فهَل سيَفْرِض على دولة قطر مَثَلًا قَطْع عُلاقاتِها مَع إيران التي وقفَت مَعها أثْناء فَرضِ الحِصار عَليها؟ وهَل سيُقْنِع السعوديّة والإمارات بمُصالَحة قطر دُونَ التَّنازُل عَن شُروطَهما الـ13، وأبْرَزها إغلاق قناة “الجزيرة؟ وماذا لو رَفَضَت هذه الدُّوَل الاستِجابَةَ لإمْلاءاتِه؟
لا نَعتقِد أنّ المستر بومبيو كانَ مُصيبًا عِنْدما قال في خِطابه أنّ بلاده تَعَلَّمَت مِن أخطائِها في “الشرق الأوسط”، وانتَقد الرئيس باراك أوباما دُونَ أنْ يُسَمِّيه بسبب تَجَنُّب الحَرب في المِنْطَقة بالتَّفاوض على الاتِّفاق النَّوويّ الإيرانيّ، فَمِنَ الواضِح أنّها بصَددِ ارتَكاب أخطاء أكبَر بدَعمِها إسرائيل وتَوريط حُلفائِها بحَربٍ ضِد إيران رُبّما تُؤدِّي إلى دَفْعِها ثَمَنًا باهِظًا جِدًّا، لأنّها ستَكون مَيدان هذه الحَرب.
أمريكا انْهَزَمت في سورية والعِراق واليمن وأفغانستان، وسيُهزَم مَشروعها في ليبيا أيْضًا، ومُحاوَلة بومبيو تَجميل وجْهَهَا القَبيح، ورَشْ العَسَل على هذه الهَزائِم مُحاوَلةٌ مَكشوفَةٌ ومَحكومَةٌ بالفَشَل.. والأيّام بَيْنَنَا.
[email protected]
أضف تعليق