لعلها الصدفة التي تجعل من أيام انطلاق فصائل العمل الوطني الرئيسية قريبة أو متوافقة مع مطلع العام الميلادي، فبعد انطلاقتي الجبهة الشعبية وحركة حماس اللتين تقعان في الشهر الأخير من العام، تجيء ذكرى الانطلاقة الأهم متوافقة تماماً مع بداية كل عام جديد، وهي انطلاقة اكبر واهم فصيل وطني فلسطيني، حركة فتح. وفي ذلك دلالة وحسن طالع، فلكل البشر وليس للفلسطينيين وحسب تمثل بداية العام، وبالتحديد اليوم الأول منه يوماً للفرح والانطلاق والتفاؤل بالعام الجديد.
وبالنسبة لـ "فتح" تمثل أيضاً مناسبة لطي عام مضى، بما له وما عليه، وتطلعاً لعام مختلف يحمل معه تجديد الأمل بتحقيق الأهداف الوطنية العظيمة التي قضى في سبيلها الشهداء وتحمّل من أجلها الأسرى والجرحى وجلّ الشعب الفلسطيني العذابات المهولة.
وكانت بداية هذا العام كذلك أيضاً، وكان الفتحاويون وهم أغلبية الشعب الفلسطيني في كل مكان يتطلعون لإيقاد شعلة الانطلاقة، دليلاً على استمرار الثورة والكفاح الوطني، وإيذاناً بالإصرار على التشبث بالظفر والنصر في نهاية ليل طويل، خاصةً بعد الهجوم الأميركي/الإسرائيلي طوال العام الماضي، وكانت المناسبة أيضاً اختباراً آخر لحركة حماس في قطاع غزة، على طبيعة نواياها ومواقفها، تجاه المشروع الوطني الذي بات إيقاد الشعلة الفتحاوية أحد أهم رموزه.
ومجدداً سقطت حركة حماس في اختبار النوايا، وأثبتت أنها ورغم مرور السنوات الطويلة على خطيئتها بحق المشروع الوطني عام 2007، ما زالت كما هي، لم تغير ولم تبدل من سياستها تجاه الكل الوطني، وأنها ما زالت غير قادرة بل وعاجزة عن التقاطع مع المشروع الوطني، وغير قابلة للانخراط فيه ولا بأي حال من الأحوال.
وقدمت "حماس" مجدداً نموذجاً أسوأ من نموذج الاحتلال نفسه، بإقدامها على قمع المحتفلين بانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأكدت على أنها ما زالت تصر على طي صفحته، وترى في حركتها هي البديل التام كل إرث الكفاح الفلسطيني الممتد منذ أكثر من نصف قرن مضى.
وفي الحقيقة فإن العام المنصرم 2018 قد مثّل انتكاسة للجهد الوطني من أجل إنهاء الانقسام، أحدثتها حركة حماس، بما يمكن وصفه بأنه يمثل الخطيئة الثانية بعد خطيئة الانقلاب، فإذا كانت "حماس" قد شقت الطريق للانفصال عام 2007، فقد قطعت الطريق على وضع الحد النهائي له عام 2018، منذ فجرت موكب رئيس الحكومة في آذار من العام الماضي، وسارت على طريق رفض إزالة كل العوائق من أجل إنهائه وعند المحطة الفاصلة المتمثلة بتمكين الحكومة في غزة، راوغت ولفّت ودارت ومن ثم تهربت من استحقاق إنهاء الانقسام.
وما زالت "حماس" تستجيب لأية إشارة إسرائيلية أو أميركية تبشر بإقامة "دولتها" في قطاع غزة، وما هي إلا أيام وتقبض "حماس" الدفعة الثالثة من ثمن الانفصال البخس، المتمثلة بالخمسة عشر مليون دولاراً القطرية التي تدفع لها منذ ثلاثة شهور، عبر القناة الأمنية الإسرائيلية، بحيث تتحول قطر إلى "مانح" خاص وولي أمر لنظام حكم "حماس" في غزة، فيما تتحول المنحة إلى تقليد روتيني شهري، يشجعها على حسم خيارها نهائياً بالاصطفاف إلى جوقة تنفيذ صفقة القرن.
حقيقة الأمر أن "حماس" واضحة، لكن ما يجب قوله اليوم هو أن اثني عشر عاماً على انقلابها، بعد ثلاثين عاماً من دخولها معترك العمل السياسي بإطار منفرد، باتت تكفي لتوقف العديد من القوى والفصائل، عن المراهنة على احتمال أن تتغير "حماس" أو حتى أن تغيّر من ثوابت سياستها الداخلية أو أهدافها الحقيقية، وإلى التوضيح بأن رهن مستقبل المشروع الوطني بتحقيق الرغبة غير الممكنة أو التوقع المستحيل بأن تقبل "حماس" بالمشاركة في العمل على تحقيق الأهداف الوطنية، وأن رهن مستقبل قطاع غزة، أو تحريره من واقع البؤس والشلل الداخلي وعلى الصعيد الوطني بقبول "حماس" بالاستحقاق الوطني لإنهاء الانقسام، ما هو إلا مقامرة، لن تؤدي إلا إلى فشل المشروع الوطني.
أي إن مستقبل المشروع الوطني، وكذلك تحرير غزة، بات أمراً ليس منوطاً بإرادة "حماس" ولكن بما ستقوم به قيادة (م ت ف) والسلطة من إجراءات مسؤولة وحاسمة، تؤدي إلى فرض إنهاء الانقسام على "حماس" التي كانت أصلاً قد أحدثته عن سابق إصرار وعزم وتصميم، ومغادرة مربع التوقع بأنه يمكن إنهاء الانقسام بموافقة الحركة التي أقدمت على أحداثه بقوة السلاح.
عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الأخ حسين الشيخ زف البشرى يوم الانطلاقة لفتحاويي قطاع غزة، ولم يفصح بالطبع عن فحوى هذه البشرى، لكن وحيث إن العام بدأ بإعلان السلطة عن قطع علاقتها بـ "حماس" والتوقف تماماً عن الركض وراء وهم إنهاء الانقسام بالتفاهم أو بالاتفاق معها، فإن هذا يعني بأن إنهاء الانقسام بات مرهوناً بفرض الأمر على "حماس" فرضاً.
ولهذا طريق أو ممر وحيد، فإضافة إلى الضغط السياسي عبر الإجراءات القانونية والرسمية من نمط حل المجلس التشريعي، وممارسة العديد من أشكال الضغط الداخلي وهي عديدة بالمناسبة، فالشرعية لا تعدم الوسيلة، وفي جعبتها الكثير من الإجراءات الممكن اتخاذها، لكن يمكن أيضا الاستعانة بالإطار العربي وحتى راعي المصالحة، وكان قادة "فتح" أعلنوا وهم يقولون بقطع الاتصال مع "حماس" بأن مصر تمثلهم في ذلك الملف، كذلك فإن ما لا تدركه "حماس" جيداً، هو أن مقتلها إنما يكمن داخل غزة بالذات.
فليس الاحتلال الإسرائيلي وحسب، بل كل الاحتلالات والإدارات التي مرت على القطاع، فشلت في تطويع سكانه بدفعهم للتنصل من وطنيتهم الفلسطينية، ولن تكفي "حماس" قوة أميركا ولا رعاية إسرائيل للانفصال ولا أموال قطر، للنجاح بإخراج غزة من المشروع الوطني الفلسطيني، وما هي إلا "دقة جدار للخزان" واحدة، ويخرج الناس لإسقاط مشروع الانفصال كما أسقطوا مشروع التوطين قبل أكثر من ستين سنة.
[email protected]
أضف تعليق