بعد أكثر من ربع قرن من إعلان جورج بوش الأب النظام العالمي الجديد والذي تم حفل تدشينه بحرب الخليج الاولى سنة 1991، وبعد أن أشهرت الولايات المتحدة نواياها بأن تصبح القوة الوحيدة في العالم، و أنها لن تسمح ببروز أي قوة أو تحالف قوى لمنافستها كما جاء في (مبدأ بوش الابن)، وبعد أن أعلن بوش الابن أن مَن ليس مع الولايات المتحدة فهو ضدها والويل من نصيبه، وبعد نشر الويل والحروب ضد العالم العربي والاسلامي تحت شعار كاذب هو (الحرب على الارهاب)، وبعد أن قُتل وجُرح عشرات آلاف الجنود الأمريكيين وخسارة ما يزيد عن 7000 مليار دولار كادت تطيح بالنظام المالي العالمي والأمريكي برمته في 2008 ، وصلت العولمة والاحادية الأمريكية الى طريق مسدود داخل الولايات المتحدة وخارجها. جاء جورج دبليو بوش عبر ثورة دستورية بواسطة المحكمة العليا مع أن منافسه حصل على عدد أكثر من الأصوات. وزادت سياسات العولمة السياسية و الاقتصادية من الديون على الشعوب ومن الحروب كما زادت اصحاب الرأسمال العالمي ثراء ومن شعوب العالم بما فيهم شعب الولايات المتحدة، فقراً وقهراً. ففي الولايات المتحدة إتسعت الهوة بين 400 أمريكي اصبحوا يمتلكون أكثر مما يمتلكه 150 مليون أمريكي. ثار المهمشون على هذا الظلم فجاءت الاضرابات في اوروبا والقلائل في بلدان العالم النامي، واجتمع المهمشون الامريكيون على غير هدى يريدون الخروج مما هم فيه من قبضة مؤسسة الدولة العميقة . كانوا تماماً كما يُشّبه المثل الصيني الأوضاع في عصر عولمتنا هذه “كسمكة كبيرة اُخرجت لتوها من الماء تتحرك بعنف علها تستطيع استعادة مكانها . وفي هذه الحالة لا تسأل السمكة إلى أين تأتي بها حركتها التالية لأنها تشعر فقط أن وضعها الحالي لا يمكن احتماله ، وهو أصلاً غير قابل للاستمرار”. قوانين التهميش الناتجة عن العولمة هي من أتت بالسترات الصفر في فرنسا والربيع العربي سابقاً وما ستأتي به لاحقاً . ( ثورة المهمشين ) في الولايات المتحدة أتت بترامب فأصبحوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، كما نتج عن الربيع العربي كالمستجير من الجرب بالطاعون.
بالنسبة للشعب الأمريكي فبعكس الاتحاد السوفيتي الذي حارب الأديان بإعتبارها أفيون الشعوب وجد إنتهازيو اصحاب النظام الرأسمالي الامريكي إستعمال هذا الأفيون المجاني لتخدير الشعب الامريكي فنشروا وروجوا للصهيونية المسيحية (البروتستينية) فاعتنقها أكثر من 70 مليون أمريكي فصاروا صهاينة أكثر من الصهاينة اليهود علهم يجدون فيها الخلاص من وضعهم البائس في الدنيا ولو في الآخرة. حين أعلم احد (النبهاء) مسؤولاً كبيراً في مجموعة الضغط الصهيونية آيباك بان معتقدات الصهاينة المسيحية تعني المواجهات مع اليهود عند رجوع المسيح فأجابه مسؤول آيباك:” عندما نرى المسيح قد وصل إلى جبال القدس سنتدبر أمرنا حيث ذاك ” .
هولاء مع المهمشين الآخرين هم من إنتخب ترامب وكان معه بعض الوصوليين وبعض المنشقين عن الدولة العميقة. لم يكن لهؤلاء أجندة سياسية واضحة. كل ما يعرفونه هو أن وضعهم الحالي غير قابل للاستمرار. خبراء العلاقات العامة الذين وظفهم ترامب في حملته الانتخابية اختصروا مطالب هؤلاء المهمشين بكلمتين :”امريكا اولاً”. وهذا يعني الخروج عن العولمة والرجوع الى امريكا داخل حدودها. وفعلاً عَبَر عن ذلك ترامب فعلاً وقولاً . قال في الامم المتحدة أنه ضد العولمة وفعل بان اصدر قوانين حمائية تتناقض مع الف باء التجارة الحرة والتي هي عماد العولمة فازداد النظام الاقتصادي وبالتالي السياسي العالمي اضطراباً وما زال يعاني من هذه الارتدادات . كان ما إتفق عليه أنصار ترامب أن العولمة كانت مصيبة عليهم، فهي التي تسببت في نقل الوظائف إلى الخارج حيث العمالة الرخيصة وهي التي نقلت اغلبية الاستثمارات الى الخارج ايضاً لِتَفوق عائد المال هناك عنه في الولايات المتحدة مما اثر على النمو والذي تم الاستعاضة عنه بالديون عبر سندات الخزانة الامريكية والذي نتج عنه اهمال البنية التحتية داخل الولايات المتحدة نفسها. وهنا ارى نبذة بسيطة من التاريخ ضرورية لتساعد على فهم ما يجري اليوم.
قبيل الحرب العالمية الثانية كان هناك تياران أكبرهما تيار الاكتفاء الذاتي والانكفاء داخل الولايات المتحدة. فهي تتميز بكونها قارة يحميها محيطان كبيران على جانبيها وبها من الخيرات ما يكفي بل ويزيد عن تأمين حياة كريمة لابنائها . وكان هذا التيار يطالب بعدم الانجرار الى الحرب العالمية الثانية التي كانت على وشك الوقوع. كان هذا التيار هو تيار الاغلبية حتى داخل الكونغرس الامريكي. في المقابل كان هناك تيار اصحاب البنوك والشركات الكبرى والتي اوصلت تكنولوجيا الانتاج الحديث والاتمتة الى طاقات انتاج تحتاج الى اسواق العالم بل وموارده الطبيعية لزيادة ارباحها . قرر اصحاب المصارف والشركات تشكيل لجان دراسات مشتركة فائقة السرية مع وزارة الخارجية الامريكية بِمُسمى (دراسات السلم والحرب) . كانت لجان هذه الدراسات برئاسة ازيا بومن رئيس جامعة جونز هوكينز. ومولت عائلة روكيفلر هذه الدراسات، كما ساهمت من قبل في انشاء منبر المصرفين واصحاب الشركات الكبرى تحت اسم (مجلس العلاقات الخارجية ). كان معظم اعضاء لجان الدراسات قد جاءت من هذا المنبر.
كان من اهم القرارات التي اوصت بها تلك اللجان والتي بدأت أعمالها قبل الحرب العالمية الثانية بشهور وانتهت بانتهائها القرارات التالية والتي اعتمدها الرئيس الامريكي روزفيلت والتي جاءت بالعولمة وادوات تنفيذها وملخصها :
ـ يجب على الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية الثانية لخلافة الامبراطورية البريطانية للمحافظة على النظام الرأسمالي الانغلوساكسوني على أن تكون المملكة المتحدة هي المستشار الامبريالي للولايات المتحدة وأن يصبح الدولار هو عملة الاحتياط العالمي بدلاً من الاسترليني .وأن وسائل الاستعمار القديمة من الاحتلال المباشر قد انتهت ويمكن الوصول الى نفس الاهداف عبر وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة .
ـ اوصت تلك اللجان بتكوين ثلاث مؤسسات اقتصادية للسيطرة على العالم وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة )والتي تأخر الموافقة عليها مباشرة وتم الاستعاضة عنها مؤقتاً بالغات GATT .
ـ وللادارة السياسية تم اقتراح تأسيس امم متحدة تستطيع الولايات المتحدة بنفوذها ان تمرر قراراتها ولها الحق في نقض اي قرار لا تبتغيه .
ـ ووافق الرئيس روزفيلت على تلك القرارات وشارك جون كينز البريطاني و ديكستر وايت من وزارة الخزانة الامريكية في صياغة تفاصيل ادوات الاستعمار الجديد الاقتصادية (العولمة ) و وضعت الخارجية الامريكية تفاصيل الامم المتحدة وتبرع روكيفلر بالارض التي بنيت عليها البناية الحالية للامم المتحدة .
أصبح هدف الولايات المتحدة عالم واحد تحت هيمنتها في ظل نظامها الرأسمالي . وبدأت ابواق الاعلام الرسمي الامريكي المملوك من اصحاب تيار العولمة بالتبشير بها ، وكان اولهم هنري لوس رئيس تحرير مجموعة مجلات تايم ولايف الاكثر انتشاراً في الولايات المتحدة حيث كتب مقالاً افتتاحياً في مجلة لايف اسماه ب(القرن الامريكي) وذلك سنة 1941. والناشر لوس ، كما هو الحال مع بوش الاب والابن، كان عضواً بارزاً في جمعية سكال آند بونز Skull and Bones الفائقة السرية ، التي تضم عدداً من النخبة في جامعة ييل .Yale جاء في مقال لوس الذي أعلن فيه عن الهدف الأمريكي بالسيطرة على العالم مع نهاية الحرب : “علينا القبول وبشعور ملؤه السعادة ما يشكل واجبا علينا وفرصة لنا ، باعتبارنا أقوى الدول وأكثرها أهمية في العالم ، وبالتالي فرض نفوذنا الكامل خدمة للأهداف التي نراها مناسبة وبالوسائل التي نختار” . عبارات لوس هذه تم تداولها على صفحات الجرائد والمجلات مثل الواشنطن بوست ، والريدرز دايجست Reader’s Digest، لتصل إلى أوساط واسعة .. ليس من الصدف تأسيس منبر (القرن الامريكي الجديد ) عند اشهار النظام العالمي الجديد والذي أتي منه اغلبية طاقم بوش الابن ، بل من المثير للاهتمام أن الرئيس بوش الابن استعار عبارة لوس الشهيرة نفسها “واجبنا وفرصتنا” في خطابه أمام العسكريين في كلية وست بوينت ، عندما أطلق عقيدته الخاصة بالحروب الإجهاضية لتطبيق النظام العالم الجديد .
يمكننا القول بأن المنظومة الفكرية السياسية والاقتصادية للعولمة قد اعلنت افلاسها. ففي العراق نجح الغزو الامريكي المبني على أكاذيب في الحاق الاضرار في بنية الدولة لكنه لم يحقق أهدافه بل ان كلفة الحرب المباشرة وغير المباشرة قد كادت تطيح بالنظام المالي الامريكي بل والعالمي وأن بقية المغامرات الامريكية في منطقتنا لم تحقق اهدافها ايضاً . فالحرب في افغانستان قد اصبحت اطول الحروب الامريكية في تاريخ الولايات المتحدة ، وتمّ الاعلان عن سحب نصف القوات الامريكية هناك مع اعلان سحب القوات الامريكية من سوريا ودونما قيد أو شرط تماماً كما فشلت حروب الولايات المتحدة بالوكالة عبر الكيان الصهيوني ضد المقاومة في لبنان حيث انسحبت قوات الاحتلال الصهيوني دون قيد أو شرط في سنة 2000 كما خسرت حربها سنة 2006 بالرغم من استعمالها كافة ادوات التدمير لاكثر من 33 يوم، وفشلت في حربها مرتين على غزة والتي ليست اكثر من سجن كبير مقاوم مساحته اصغر من مساحة مزرعة بوش في تكساس . فهل يمكننا أن نقول ان ذلك الكيان هو فعلاً اوهى من خيوط العنكبوب وان صفقة خيبته ستنقلب الى لعنة على اصحابها من الصبية المراهقين سياسياً؟
لقد بدأ الانسحاب التدريجي من العولمة السياسية في منطقة الشرق الاوسط منذ عهد اوباما . ففي ولايته الثانية وفي مقابلة مع مجلة اتلانتك عدد ابريل 2016 قال الرئيس اوباما أن منطقة الشرق الاوسط ليست بالاهمية الاولى للولايات المتحدة حيث ان لها اولويات اخرى في شرق آسيا وامريكا الجنوبية. وهذا ما تم تسميته (مبـدأ اوباما ). وفي نفس المقابلة قال اوباما ان ايران ليست العدو للسعودية وإنما العدو هو من داخلها من شباب عاطل عن العمل وغالبية فئات المجتمع المهمشة حيث يستأثر القليل من المتنفذين بالموارد المالية والاقتصادية .
نحن والعالم اليوم نعيش في مرحلة حرجة وخطرة من التاريخ حيث اننا في مرحلة انتقالية ما بين عصرين ، عصر ما قبل وعصر ما بعد الامبراطورية الامريكية . وهو الى حد بعيد يشبه ايام الاتحاد السوفياتي قبل انهياره بسنوات قليلة . ومما يزيد من الخطورة ان من يدير الامبراطورية المتهاوية نفرٌ من المتعصبين وقليلي الخبرة والصبية.
انهار الاتحاد السوفياتي ولكن بقيت دوله مفككةً وشبه فاشلة خلال عقد من الزمان لكنها استرجعت قواها. أما الولايات المتحدة فمقدراتها البشرية والمادية والتكنولوجية هائلة ، لكنها ستكون دولة كبرى بلا عولمة واجندات عالمية مختلفة . ستتغير التحالفات وسيكون لذلك انعكاسات كبيرة جداً على العالم ، وسيكون من اكبر الخاسرين اصحاب النظام الرسمي العربي الا من رحم ربي وبدأ الخروج من خيمة الهيمنة الامريكية وبدأ بنسيج استراتيجيات وتحالفات جديدة تنبع من مصالح شعوبه وتعتمد على مقدراته وستكون دولة الكيان الصهيوني )وهي التوأم الذي رعاه النظام الرسمي العربي( من اكبر الخاسرين وبظني أنها لن تصل الى عمر دولة الصليبين بل ولن تصل الى نهاية هذا القرن الحالي بالرغم من تطبيع المطبعين فلسطينيين كانوا ام عرباً أم اعراباً . كذلك فإن الدول التي يفترسها صندوق النقد الدولي والفساد مجتمعان سيصيبها تغيراتٌ عميقة اذا لم تبادر بالاصلاح وإعادة بوصلتها السياسية والاقتصادية قبل فوات الأوان.
وختاماً اقول ان الأزمة التي نعيشها هي (أزمة نظام: الرأسمالية والعولمة في مأزق) وهو بالضبط عنوان كتابي الذي اصدرته عند نشوب ازمة 2008 الاقتصادية مبيناً أن النظام الرأسمالي وعولمته قد وصلا الى نهاية المدة. كانت افتتاحية كتابي ذلك اقتباساً للبروفيسور ليستر سي ثورو الاستاذ بإحدى اعرق الجامعات الامريكية (MIT) عن كتابه (مستقبل الرأسمالية) جاء فيه: “إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها. ولكن، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام الرأسمالي نفسه “.
[email protected]
أضف تعليق