شرارة واحدة انطلقت من النيران التي اشعلها محمد البوعزيزي في جسده، في قريته النائية جنوبي تونس كانت كافية لتفجير الغضب العربي المكبوت في صدور الملايين من الرعايا العرب المقهورين بالحرمان والفقر والتجاهل واسقاطهم من ذاكرة “السلطان” الذي قفز في غفلة إلى سدة الحكم، معززاً بعارضة الازياء، ناهبة الجواهر واللآلئ من قصور الحبيب بورقيبة وشركائه في حكم “الغفلة”.
نزلت الملايين إلى الساحات والشوارع في عاصمة التاريخ، القاهرة، وفي مدن عربية أخرى يعاني اهلها ما يعانيه التوانسة، ولاحت بشائر فجر التغيير في انحاء عديدة من هذا الوطن العربي…
لكن السلاطين العرب الآخرين كانوا أكثر يقظة من زين العابدين، فاستعدوا “للانتفاضة” التي كانت تتقدم إلى عواصمهم محرقة هشيم الانظمة العاتية… وهكذا ركب “الاخوان” الموجة الشعبية موفرين الذريعة للجيش كي يتصدى “للفتنة”، وعبر الصدام الدموي بين الطرفين، سقطت الانتفاضة صريعة الصراع المستجد على السلطة بين هذين الخصمين اللدودين.
مسكين انت، يا وريث البوعزيزي، المصور الصحافي عبد الرزاق الرزقي، يا من احرقت نفسك في مدينة القصرين، فقضيت وحيداً، وخرج خلف جثمانك اهلك ورفاقك كمشيعين وليس كحملة رايات للانتفاضة التي ستستولد الثورات في أربع جهات الوطن العربي.
لقد نبه البوعزيزي هذه الانظمة العاتية إلى أن نار جسده المحترق، مرفقة بالشعارات الجارحة بحقيقتها، تكفي لإشعال الارض العربية جميعاً حيث يعاني اهلها من الظلم والفقر والقهر والصمت المفروض بما لا يمكنهم من التعبير عنه، فيسقطون الظلم والظالمين ويفتحون باب التغيير نحو الافضل امام اجيالهم الآتية لتعيش بكرامة..
بدلاً من إحراق المواطن نفسه احتجاجاً على ظلم الانظمة، ها هي الانظمة والقوى الاجنبية (والعربية) التي ترعاها تحرق بلدانها بمواطنيها، او بلاد الآخرين بأهلها من اليمن إلى تونس والجزائر، مروراً بالبحرين، وصولاً إلى العراق وسوريا ولبنان المهدد في نظامه وكيانه، والى مصر المهددة بالاختناق مرارة وقهراً..
إن الوطن العربي يحترق بقهر العجز عن التغيير، او بوقوف الفتنة سداً في وجه التغيير بما يحول الثورة إلى فتنة والفتنة إلى حرب أهلية لا يفيد منها الا النظام الدكتاتوري القائم وطغمة الحكم الفاسدة والمفسدة والتي لا تتورع عن ضرب الناس بعضهم ببعض حماية “للعهد”… ودائماً بذريعة منع الفتنة والحرص على السلم الاهلي!
ليس بين هذه الانظمة من يستطيع الادعاء انه “شرعي” وانه انما يمثل شعبه بقوة الاختيار الحر.
إن الانتخابات التي تشهدها البلاد العربية عموماً، لا فرق بين ذات الانظمة الملكية او ذات الانظمة العسكرية او حتى ذات “النظام الديمقراطي الجمهوري” كما لبنان، هي “انتخابات معلبة”، نتائجها فضائح مدوية، وضحاياها شعوب هذه المنطقة التي طالما قاتلت الاستعمارين البريطاني والفرنسي… وعدوانه الثلاثي على مصر (سنة 1956) والحروب الاسرائيلية المتوالية على مصر وسوريا (1967) ثم سنة (1973)، وبعدها محاولة احتلال لبنان (1982) والحرب على مقاومته في العام 2006… هذا فضلاً عن اجتياح العراق مرة اولى عام 1992 ثم احتلاله جميعاً في العام 2003، ومن بعد تفجير سوريا بالحرب فيها وعليها منذ ثماني سنوات طويلة ومدمرة.
إن الوطن العربي محتل، شعوبه مغلولة الارادة، وحكامه اباطرة على شعبه يحنون رؤوسهم امام الخارج، وينفذون التعليمات الواردة اليهم، بغير تمييز بين أن تكون بالانكليزية او بالعبرية او بعربية مكسرة ومهجنة الخ..
لا يمكن أن تستقيم هذه المعادلة الفاحشة: يقدم المواطن العربي على احراق نفسه احتجاجاً على النظام واعتراضاً على عجزه عن التغيير، ثم يقوم النظام بإحراق البلاد بالعجز والاذلال امام المستعمر الاجنبي والمحتل الاسرائيلي!
يكاد الوطن العربي أن يكون بركة من دماء مواطنيه…
لقد حل الحاكم او المتحكم المحلي محل الاستعمار، او انه صار غطاء له.
أن الوطن العربي محتل من ادناه إلى اقصاه، وليس بين دوله من يستطيع حكامها الادعاء انهم “احرار” او أن ارضهم “حرة”..
ليس الاستقلال، عربياً، الا خرافة.
وقرار البلاد العربية ليس فيها، وليس بأيدي اهلها، بل هو اساساً في واشنطن او في تلك ابيب وكلتاهما واحد..
بل أن الدول العربية ليست دولاً بجيوش ورؤساء وشرطة ومخابرات الا على رعاياها الذين لا يجدون ملجاً فيها فيغادرون إلى أي مكان يقبلهم… والجثث الطافية على امواج بحور المنفى خير شاهد.
أن هذا الوطن العربي الكبير يكون بالثورة، او لا يكون ابداً.
أن انظمته تعمل في خدمة المهيمن الاجنبي، اميركيا او إسرائيلياً، بالأمر او بالضعف والعجز والاحتياج اليه.. هرباً او خوفاً او عجزاً او تواطؤاً على شعوبها…
.. والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
وكل عام وأنتم بخير…
تنشر بالتزامن مع السفير العربي
[email protected]
أضف تعليق