صدر حديثًا عن كليَّة الناصرة للفنون، كتاب جديد، بعنوان: "جئتكم أغنيِّ-نحو أغنية محليَّة ذات نكهة وهويَّة". يبحث فيه مؤلِّفه الشَّاعر سيمون عيلوطي عن النَّكهة المفقودة في الغناء الفلسطينيّ المعاصر، وقد جاء الكتاب بحلّة جميلة وطباعة أنيقة تمَّت في مطبعة الحكيم – الناصرة، صمَّم لوحة غلافة الفنَّان التَّشكيليّ زاهد عزَّت حرش، ووقع في (105) صفحات من القطع الكبير.
نقرأ في الكتاب كلمة النَّاشر الأستاذ كريم شدَّاد، مدير كليَّة الناصرة للفنون، يقدِّم فيها نبذة عن تجربة المؤلِّف الحياتيَّة والأدبيَّة. ثمَّ نقرأ كلمة أخرى للأديب ناجي ظاهر، وهي بمثابة مقدِّمة يتوقَّف فيها عند أهم الأمور التي يطرحها الكتاب.
يهدي المؤلِّف كتابه: "إلى كلِّ مَنْ يعزفُ لحنًا، ويشاركُ العصافيرَ شدوًا، ليُساهِمَ في تنظيمِ العواطفِ ويطربَ النَّاس"،
بعد ذلك يستعرض المؤلِّف تجربة المطرب فوزي السَّعدي باعتباره صاحب تجربة غنيَّة في مجال الأغنية المحليَّة، وهو الوحيد من بين المطربين المحليِّين الذين تفرَّغوا لهذه المسألة، فجعل منها مشروعًا لحياته، أنتج عبرها أعمالًا غنائيَّة كثيرة، أوجد فيها تلك النَّكهة الفلسطينيَّة المفقودة، ليشكِّلَ بذلك علامة نحو أغنية محليَّة ذات طابِع وهويَّة.
يتناول المؤلف في إصداره الظروف الاجتماعيَّة، الفنيَّة والسياسيَّة التي أربكت تطوُّر الأغنية الفلسطينيَّة، خاصَّة أنَّ الشَّرخ الذي حدث للشَّعب الفلسطينيّ بعد عام 1948، وما تعرَّض له من اقتلاعٍ وتهجيرٍ وتهميشٍ لحقوقه السّياسيَّة والثقافيَّة، خلق حالة من الفراغ، بات من الصَّعب معها الاستمرار بمواصلة العمل الفنيّ والثقافيّ من خلال التَّواصل الطبيعيّ للأجيال الفنيَّة والثقافيَّة ما قبل الـ 48، وما بعدها. حيث كان من نتائج تلك الحالة المدمِّرَة، توقُّف الأغنية الفلسطينيَّة عن متابعة مشوارها الذي بدأته قبل قيام دولة إسرائيل مع أغنيات نوح إبراهيم وغيرة من المطربين الفلسطينيِّين لتسير بخطوات جادة نحو تشكيل أغنية ذات طابع يميّزها عن غيرها من الأغنيات العربيَّة. يرى المؤلِّف أن الأغنية التي أنْتِجَت في تلك الظُّروف القاهرة جاءت على ندرتها مهلهلة، شاحبة، لم تجد لركاكتها من يستمع إليها، فتراجعت، ثمَّ تلاشت عن السَّاحة الفنيَّة تمامًا، متوقِّفًا عند العديد من الأمثلة التي تدعم رأيه حول ضعف الأغنية الفلسطينيَّة في تلك الفترة، وترنَّحها ما بين الأغنية المصريَّة واللبنانيَّة، ما أفقدها أصالتها، فنفضَّ من حولها الجُّهور، وتخلَّى عنها حتَّى أصحابها.
يرصد المؤلِّف بعد ذلك الأغنية الفلسطينيَّة التي أخذت تتبلور وتتشكل بعد زوال الحكم العسكري الذي كان مفروضًا على الأقليَّة العربيّة بعد عام 1948، مبيَّنًا أنَّ الأغنيات التي أنْتِجَت في ظلِّ هذا الانفراج السِّياسيّ النِّسبيّ، لامست إلى حد ما الخصوصية الفلسطينيَّة المتأثرة بأغاني التُّراث الفلسطينيّ، فأتت تبشِّر بولادة أغنية محليَّة ذات نكهة وهويَّة تميِّزها عن أغنيات الوطن العربيّ، ذاكرًا الكثير من الأعمال الغنائيَّة التي تدلّ على ذلك، وبشكل خاص أعمال يوسف الخل، ميشيل ديرمنكينان، مارون أشقر، صدقي شكري، حكمت شاهين، خليل موراني، فوزي السَّعدي، مصطفى الكرد، وغيرهم، وفي هذا الإطار يتوقَّف عند الفرق الغنائيَّة، والاستعراضيَّة الرَّاقصة التي استطاعت أن تجسِّد بأعمالها الفنيَّة الطابع والنَّكهة الفلسطينيَّة المطلوبة في أغنياتنا خاصَّة، وفي فنوننا عامَّة. كما تطرَّق إلى فرقة "يُعاد" الرَّاماويَّة، فرقة "صابرين" المقدسيَّة، فرقة "ولّعت" العكَّاويَّة، فرقة "موَّال" النصراويَّة بقيادة نهاد ومعين شمشوم، فرقة "سلمى" الحيفاويَّة بإشراف فريال خشيبون، وفرقة كروان الموسيقيَّة من عبلين ممثَّلة بقائدها المايسترو نبيه عوَّاد.
ثمَّ استعرض اِطْلالَة الأصوات الجديدة المستَلْهِمَة في أغنياتها للنَّكهة فلسطينيَّة التي يتمحور حولها الكتاب. من هؤلاء يذكر: كاميليا جبران، ريم تلحمي، سناء موسى، ريم بنّا، عمّار حسن، أمل مرقص، سلام ودلال أبو آمنة، تريز سليمان، محمّد عسَّاف، علاء عزَّام، موضِّحًا أنَّ أصحاب هذه التَّجارب الغنائيَّة لو وجدت وسائل إعلام مسموعة ومرئيّة تقوم بواجبها كما يجب، لصدحت أغنياتنا الفلسطينيَّة في أرجاء الوطن العربيّ، معلنةً ومبشِّرةً بولادة أغنية فلسطينيَّة تملك من العناصر الفنيَّة ما يساعد أصحابها على مواصلة أعمالهم التي نأمل أن تتطوَّر لتصل إلى المستوى الفنيّ المطلوب.
يلاحظ المؤلف أن هذه الأعمال الغنائيَّة الاستعراضيَّة الرَّاقصة، رغم أنَّ بعضها لم يخرج من معطف الأغنية الرَّحبانيَّة، إلّا أنَّها تستدعي من المختصِّين في هذا المجال وقفة خاصَّة لمعالجتها، خاصَّة أنها ساهمت في إثراء حركتنا الفنيًّة الغنائيَّة، وتركت بالغ الأثر الطيِّب في نفوس الجُّمهور.
كما يطرح المؤلِّف في كتابة العديد من الأمور ذات الصِّلة بموضوع الأغنية المحليَّة منها: "معاناة هذه الأغنية ومأزقها الحاد بسبب عدم مقدرتها على تكوين بصمتها، نكهتها، وما يميِّزها عن غيرها من أغنيات الأقطار العربيَّة الأخرى، محاولا تلمّس الإمكانيات والمنافذ المتيسِّرة، لكنَّ الصَّعبة، الكفيلة بوجودها وتألّقها". كما يثير مسألة غياب الإعلام بمخلف وسائلة المقروءة والمسموعة والمرئيَّة، عن الأغنية المحليَّة، وأن حدث وتطرَّق إليها هذا الإعلام، فإنَّه يفعل ذلك بطريقة هشَّة لا تعطي فنّ الغناء حقّه الّا نادرًا.
أمَّا ما يخصّ الفنان فوزي السَّعدي، فإنَّ صاحب الكتاب لا يروم أن يقدِّم فيه دراسة بحثيَّة–نقديّة عن تجربة هذا الفنَّان اللحنيَّة والغنائيَّة، إنَّه يترك ذلك لذوي الاختصاص في هذا الشَّأن، لكنَّه يريد أن يسجِّل استعراضًا لأهم المراحل التي بلورت تجربة هذا الفنَّان الفريدة من نوعها على صعيد أغنيتنا المحليَّة، باعتباره صاحب أوسع تجربة غنائيَّة محليَّة، بلغ عدد أغنياته الخاصَّة به أكثر من مئة وعشرين أغنية، جسَّد فيها النَّكهة، موضوع حديثنا.
ومن الجَّدير بالذِّكر أنًّ مؤلف الكتاب الشاعر سيمون عيلوطي، أشار إلى أنَّ هناك على ساحتنا المحليَّة وفرة من الأصوات الغنائيَّة، بعضها يملك قدراتٍ صوتيَّةً ارتقت إلى مستويات لافتة في عالم الغناء، وبعضها الآخر تألّق في مهرجانات هامَّة محلّيًّا وعربيًّا، وقد أنحى بنفسه عن ذكر أسماء هؤلاء بسبب أنّهم حصروا غناءهم بغيرهم من مطربي الوطن العربيّ. وتوجُّهه هنا يتمحور حول الأغنية المحليَّة دون سواها، ممَّا اقتضى التَّوضيح.
[email protected]
أضف تعليق