آخِر شَيء ينتظره العَرب والفِلسطينيّون أن تتقدَّم إليهِم السيدة نيكي هايلي، مَندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، بنَصائِح لقُبولِ “صفقة القرن” التي مِن المُفتَرض كشْف مَضمونِها في الأشهُر الأُولى مِن العام الجَديد، هذا إذا بَقِيَ الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنر في البيت الأبيض، لأنّ رفْضَها سيَرتَد عليهِم بمَخاطرٍ كَبيرةٍ.
السيدة هايلي التي أرادَت اختَتام وظيفتها في المنظمة الدوليّة باستِصدارِ تَوصيةٍ عَن الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة بإدانَة حركة “حماس” وإلصاق تُهمَة “الإرهاب” بِها، ومُنِيت بهَزيمةٍ مُذلَّةٍ، أثْبَتت طِوال تَمثيلها لبِلادها في الأُمم المتحدة أنّها أكثر عُنصريّة وصُهيونيّة مِن الإسرائيليين أنفسهم، وكانَت مِن أشَد المُؤيِّدين لجَرائِم الحَرب الإسرائيليّة في قِطاع غزّة، وقاوَمت كُل المطالب لتشكيل لجنة تحقيق دوليّة في هذا المِضمار، وبلَغَت دَرجةً مِن الوقاحة غَير مسبوقة عندما انسَحَبت مِن القاعَة الرئيسيّة للأُمم المتحدة أثناء إلقاء الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس كلمته، وهو الرجل الذي كانَ خَلف اتِّفاق أوسلو، ومِن أشَد المُدافِعين عَن التَّنسيق الأمنيّ مع الإسرائيليين، أصدقائها الحميميّن.
***
صواريخ المُقاوَمة التي انطَلقت قبل أُسبوعين باتِّجاه المُستوطنات الإسرائيليّة في غِلاف قِطاع غزّة، وتَعانَقت مع الانتِفاضة المُسلَّحة التي استَهدَفت الجُنود والمُستوطنين في الضفّة الغربيّة ألغَت “صفقة القرن” هَذهِ، وحوّلتها إلى أشلاءٍ في مَهدِها، ولنْ تَجَد مِن الفِلسطينيّين مَن يقبل بالاطِّلاعِ عليها، ناهِيك عَن التَّفاوض حولَ بُنودِها أو تَوقيعِها.
عِندما يَخرُج مِئات الآلاف في قِطاع غزّة احتِفالًا بالذِّكرى الـ31 لانطِلاقَة حركة “حماس” مُبايِعين جناح القسّام، ذِراعها العَسكريّ، ومُعاهدينه وقَيادته بالقِتال حتّى الشَّهادة لاستعادَة كُل الأراضِي الفِلسطينيّة المحتلة، فهَذا يعني أنّ هَذهِ “البَيعَة” جبّت كُل ما قبْلها مِن مُفاوَضاتٍ عبثيّةٍ، وألغَتْ عَمليًّا كُل حَديث عَن السَّلام المَغشوش، وأكَّدَت الالتِفاف حول ثقافة المُقاومة ومِحْوَرِها.
الزَّمن الذي كانَت تتقدَّم فيه الولايات المتحدة بمَشاريع السلام، وتَجِد مَن هو على استعدادٍ لمُناقَشتها، أو التَّفاوض حولها، قد وَلَّى إلى غَيرِ رَجعةٍ، بعد أكثَر مَن رُبع قرنٍ مِن انخِداع بعض الفِلسطينيين السُّذَّج بِها، والرِّهان على الحُصول على دولةٍ هزيلةٍ مُشوَّهةٍ مِن خِلالِها، فمَن يَثِق بالأمريكيين بعد نَقل سفارتهم إلى القُدس المُحتلّة؟
لعنَة “صفقة القرن” ارتَدّت صفعات مُتوالية ومُؤلِمة لكُل الذين صاغُوا فَقراتها خِدمَةً لإسرائيل ومَشروعِها العُنصريّ الاستِيطانيّ، وحاولوا تَسويقَها وفَرضَها على الشَّعب الفَلسطينيّ، فها هو المُحَقِّق مولر يُضَيِّق الخِناق على عُنُق ترامب، وعلى وَشكِ فتح مِلفَّات صهره جاريد كوشنر التجاريّة مع المملكة العربيّة السعوديّة، وها هو صديقه الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعوديّ، أحَد أبرز مُؤيِّديها، أي الصفقة، يُدان ومِن مجلس الشيوخ الأمريكيّ وبالإجماع، باعتبارِه المَسؤول الأوّل عن جريمَةِ قتل الصِّحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي.
المُقاومة الفِلسطينيّة تَخرُج قَويَّةً مِن وسط “سُخام” التَّطبيع والاستِسلام الرسميّين العَربيّين وتَفْرِض هيبَتها ومُعادَلتها القَديمة المُتجَدِّدة في المِنطَقة بقُوَّةٍ، وها هو السيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسيّ لحركة “حماس” يكْشِف للمَرِّةِ الأُولى، وفي خِطابِه التاريخيّ وسط الآلاف المُحتَفِلة بذِكرى انطِلاقَة حركته، ليسَ عَن أسلحة وصواريخ بقُدُرات تدميريّة جديدة، وكنز استخباريّ عظيم جَرى انتزاعه مِن الأجهزة الأمنيٍة الإسرائيليّة، ومُحاولاتها الفاشِلة للتَّسَلُّل إلى القِطاع، وإنّما أيضًا عن استِجداءِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نِتنياهو لوقف إطلاق النّار، لأنّ هَذهِ الصَّواريخ كانَت على بُعدِ خَطوةٍ واحِدةٍ مِن ضرب تل ابيب ومَطارِها، وإرسال أكثَر مِن ثلاثة ملايين إسرائيليّ إلى المَلاجِئ.
الفِلسطينيّون لا يُريدون “صفقة القرن”، ولا يُريدون التَّعاطِي مع التَّكاذُب الأمريكيّ مَرَّةً أُخرَى، ويتَوحَّدُون الآن على أرضيّة المُقاوَمة، وباتَت بوصلتهم تَتَّجِه صَوبَها، ومِحوَرها، مُجَدَّدًا وأكثَر مِن أيِّ وَقتٍ مَضى، ولِهذا ينظرون إلى السيدة هايلي ودَوْلتِها ورئيسِها وصفقة قَرنِها بازْدِراءٍ كَبيرٍ.
***
فليُهَدِّد نِتنياهو ببِناء مُستوطناتٍ جَديدةٍ كَيْفَما شاء، لأنّها قد لا تَجِد مِن يستطيع البَقاء فيها في المُستَقبل المَنظور، وسيَفِرُّون هَربًا مِنها للنَّجاةِ بأرواحهم، والعَمليّات الأخيرة التي استَهدفت هؤلاء في مُستَوطنات البركان و”عوفر” في الضفّة الغربيّة، والصَّواريخ التي دمَّرت سِتْ عَمارات وحافِلة للجُنود الإسرائيليين شِمال قِطاع غزّة هِي أحْدَث الإنْذارات والتَّحذيرات في هذا الصَّدد، وما خَفِيَ كانَ أعظَم، مِثلَما اعتراف نِتنياهو نفسه، تَبريرًا لسَعيِه لوقف إطلاق النَّار في حَربِ غزَّة الأخيرة.
نَنْصَح السيدة هايلي بأنْ تأخُذ “صفقة القرن” مَعَها إلى مزبلة التَّاريخ وهِي تُغادِر منْصِبها في الأُمم المتحدة أواخِر الشَّهر الحاليّ.. خريطة الصِّراع العَربيّ الإسرائيليّ تتغيّر بسُرعةٍ، ولا مَكان فيها للصَّفَقات.. وإنّما للصَّفَعات.. والأيّام بَيْنَنَا.
[email protected]
أضف تعليق