تصدر العديد من الجهات الرسمية والاعلامية تقارير عشية عيد الميلاد المجيد تتحدث عن عدد المسيحيين في الأرض المقدسة. وبالرغم من مصداقية بعض هذه الجهات، الا أنه يمكن القول إن هذه التقارير عن أعداد المسيحيين قد تكون غير دقيقة. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية: أولا، هنالك خلط، خاصة في إسرائيل، في تسجيل من هو المسيحي. فعدا المسيحيين الفلسطينيين الاصلانيين، هنالك عشرات الآلاف من المسيحيين الذي وفدوا إلى إسرائيل ضمن الهجرات المتعاقبة، مثل أولئك الذين قدموا من اثيوبيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، وجل هؤلاء غير مسجلين رسميا كمسيحيين في إسرائيل. وهناك أيضًا الالاف من المسيحيين المقيمين في إسرائيل من العمال الاجانب الذين وفدوا بطريقة قانونية من الفيليبين وغيرها أو بطرق غير قانونية (مثل المهاجرين من اريتريا والسودان).
ثانيا، هنالك عدد كبير من المسيحيين من حملة الجنسية الاسرائيلية الذين يقيمون في المهجر بصورة دائمة، ويقدر عدد هؤلاء بالالاف، غير أن قسما كبيرا منهم لا يزال مسجلًا كمن يتخذ من إسرائيل مسكنا رئيسيا له.
ثالثا، هنالك زيادة كبيرة في حالات الطلاق لدى المسيحيين في إسرائيل. وفي هذه الحال يقوم بعض طالبي الطلق، - وهم بالأساس منتمون إلى الكنائس الكاثوليكية-، بتسجيل أنفسهم كروم ارثوذكس رغبة في تسريع معاملات الطلاق، وبالتالي "يزيد" عدد الروم الارثوذكس، في حين يبقى الكثير من هؤلاء مسجلين أيضا في كنائسهم الأصلية، مما يشكل ازدواجية بالتعداد.
يمكن القول إن النقطتين الثانية والثالثة الواردتين أعلاه تنطبق أيضا على وضع المسيحيين في فلسطين، وليس فقط في إسرائيل.
غير أنه بغض النظر عن دقة أعداد المسيحيين في الأرض المقدسة، فإنه يمكن القول إن المسيحيين، سواء في إسرائيل أم في فلسطين، هم أقل الديانات تكاثرا، حيث نسبة الولادة لديهم متدنية جدا اذا ما قارناها مع اتباع الديانات الأخرى، ونسبة الهجرة عندهم هي الأعلى إذا ما قارناها مع اتباع الديانات الأخرى. وبالتالي، ليس سرا ولا مفاجئا التوصل إلى معطيات تدل على أن نسبة المسيحيين في "فلسطين التاريخية" (إسرائيل وفلسطين) تراجعت من 12% إلى نحو 1% خلال نحو قرن من الزمن!
هذا الأمر يدفع الكثيرين، من مسيحيين وغير مسيحيين، إلى التخوف على مستقبل الوجود المسيحي في الأرض المقدسة. لكن في الواقع عدد قليل من الناس والجهات تسعى بصورة جدية لفهم اسباب تضاؤل عدد المسيحيين وعدد أقل يسعى لمعالجة هذه الاسباب.
إن الكنائس، وخاصة الكاثوليكية، هي من بين الجهات القليلة التي تعمل في هذا المضمار بالأساس من خلال الحفاظ على العشرات من المؤسسات التي تقدم خدمات لقسمٍ كبيرٍ من المسيحيين (وغير المسيحيين) في البلاد، خاصة في حقلي التعليم والصحة، كما توفر هذه المؤسسات فرص عمل عديدة للالاف من المسيحيين وغير المسيحيين. ناهيك عن مشاريع الاسكان العديدة التي اطلقتها هذه الكنائس، بالأساس في الضفة الغربية والقدس الشرقية، التي استفادت منها المئات من العائلات المسيحية الفلسطينية.
لكن، عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية يبقى عنصرا مهما وهو الذي يدفع الكثيرين إلى الهجرة، وبما أن عدد المسيحيين قليل أصلا، فإن هجرة بعضهم يمكن ملاحظتها بوضوح إذا ما قورنت بهجرة اتباع الديانات الأخرى في الارض المقدسة.
ومع ذلك أود أن أذكر أمرين مهمين في هذا الصدد: الأول، إن عدد المسيحيين في الأرض المقدسة شهد صعودا وهبوطا على مر التاريخ، وتأثر بالأساس بالحروب وحالات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي شهدتها البلاد عبر القرون. أما الثاني، فهو أن المسيحيين، بالرغم من كونهم أقلية عددية، فإنهم لعبوا، وما زالوا يلعبون، أدوارا مهمة في جميع المجتمعات التي يعيشون فيها.
من ثم، وبالرغم من أهمية الاعداد، الا أن الأهم هو أن يتذكر المسيحي ويذكر الآخرين بأنه مواطن، لا يطالب بأن يكون أفضل من غيره ولا يقبل أن يكون أقل من غيره، إنما له الحق مثل غيره أن يكون شريك في بناء وقيادة المجتمع الذي يعيش فيه، مثله مثل سائر المواطنين من اتباع الديانات الأخرى.
على المسيحيين الأصلانيين في الأرض المقدسة أن يتذكروا أيضا بأنهم أحفاد الرسل الاولين، الذين كانوا عددا صغيرا جدا، لكنهم استطاعوا تغيير التاريخ بإيمانهم ومثابرتهم وتضحياتهم وبدون اللجوء إلى أي عنف، وبدون المطالبة بأية امتيازات.
من المفيد بمكان للمسيحيين أن يتذكروا رسالتهم التي اطلقها السيد المسيح قبل الفي عام حين قال: "أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملّح؟ لا يصلح بعد لشيء، إلا ليطرح خارجا ويدوسه الناس" (انجيل متى، الفصل 5، الآية 13).
وبالتالي، فإن المسيحيين مدعوُّون إلى الاهتمام بالأساس لدورهم ورسالتهم، وبالتالي قيمتهم النوعية في المجتمع أكثر من قيمتهم العددية. كما أن المسيحيين في الأرض المقدسة محظوظون أكثر من غيرهم من المسيحيين لأنهم مدعوون لكي يكونوا شهودا ليسوع المسيح في وطنه الأرضي، وهذا الأمر يميزهم عن سائر المسيحيين في العالم.
لذلك، ومع فرح عيد الميلاد المجيد، ومع استذكار أن السيد المسيح قام بعد الموت، فإن المسيحيين في الأرض المقدسة مدعوون إلى الاهتمام بأن يكونوا ملحًا في مجتمعهم وفي البلد الذي يعيشون فيه، يجعلون للحياة معنى ويرسِخون فيها مبادئ وقِيَمًا تجعل العيش طيبًا لجميع من يسكنها، ويكونون مصدر فرح وقيامة لنفسهم ولابناء بلدهم بمختلف انتماءاتهم!
[email protected]
أضف تعليق