قبل ثلاثة أسابيع أعلنت سلطات الاحتلال عن نيتها إقامة مبان استيطانية جديدة في الخليل القديمة، وبالتحديد في محطة الباصات المركزية التي استولت عليها في العام 1982، علماً أن المحطة منذ ذلك التاريخ تعتبر منطقة عسكرية مغلقة خاصة بعد أن أقيم عليها معسكر للاحتلال.
قبل يومين أعلن وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أنه قرر منح المستوطنين ترخيصاً لإقامة مبنى استيطاني في سوق الخضار المركزية التي تبعد عن محطة الباصات نحو مائتي متر. وكانت سلطات الاحتلال قبل ذلك استولت على مدرسة أسامة بن المنقذ، التي تقع أسفل محطة الباصات وبجوارها غرباً مبنى الدبويا.
في هذه المقالة لن نتحدث عن السيطرة المطلقة والزاحفة للاستيطان في البلدة القديمة من حيث الكمّ أو السياسات بقدر ما نتحدث عن الخليل القديمة المهوّدة كذكريات.
عندما كنّا أطفالاً كان الأجداد والآباء يحدثوننا عن مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها خلال النكبة في العام 1948.
الرواية الشفوية للمكان كانت ضرورية جداً، بالنسبة للذين هُجّروا وهم قادرون على التذكر ورسم خرائط شفوية لأطفالهم.
كان المتحدثون يركزون في ذكرياتهم على مبنى رئيس مثل المسجد أو المدرسة أو بئر المياه أو أشجار معمّرة وشوارع رئيسة.
الرواية الشفوية للقرى والمدن المهجّرة والمنكوبة كانت تتناول كل شيء سواء أكان اجتماعياً أو ثقافياً أو دينياً أو غير ذلك.
كل طفل لاجئ استمع إلى الروايات الشفوية قادر اليوم على رسم خارطة جغرافية افتراضية ومصوّرة ذهنياً لقريته أو مدينته المهجّرة.
ولكن ماذا بالنسبة للبلدة القديمة من الخليل التي أغلقها الاحتلال بشكل فعلي؟ الأجزاء المهوّدة فيها هودت منذ العام 1982، أي مر على تهوديها 38 عاماً، وهي فترة زمنية أطول حتى من ذكريات اللاجئين المنكوبين منذ العام 1948، لأن الفترة بين اللجوء والسرد لم تتجاوز 15 أو 20 عاماً.
في الخليل القديمة نحن الجيل الذي عايش الواقع والصورة الحقيقية، ولهذا نحن مطالبون اليوم بتسجيل روايتنا للأجيال القادمة.
محطة الباصات القديمة التي سيقام فوقها 30 منزلاً استيطانياً كانت منطقة مزدحمة بشكل كبير، كل باصات قرى محافظة الخليل ومخيماتها وبلداتها تتوقف فيها. علماً أن السيارات لم تكن منتشرة في سبعينات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، ولذلك كان الاعتماد بشكل أساسي في التنقل على الحافلات الكبيرة.
في هذه المحطة كان هناك أشهر بائع كباب اسمه "أبو صلاح" بحيث إن كل قروي يصل إلى الكراج لا بدّ أن يمرّ على "أبو صلاح" الذي لم تتوقف "كوانينه" عن الاشتعال لتوفير طلبات آلاف المواطنين.
لم تكن هناك المياه تشرب عبر الصنبور في المحطة، بل عبر برميل كبير معبأ بالماء فوقه "طاسة" من الألمنيوم الكل يغرف من البرميل ويشرب حتى المارون في المنطقة.
مقابل "أبو صلاح" كانت هناك قهوة شعبية تقدم فقط القهوة والشاي، كراسيها من القش. مقابل محطة الباصات كانت المقبرة، التي استخدمت كطريق مختصرة للوصول إلى حي أبو اسنينة، أو حتى إلى المنطقة الغربية باتجاه باب الزاوية. الأمكنة المسقوفة والأفضل كانت من نصيب شركة باصات الخليل الوطنية والتي تعمل على خط القدس - الخليل، أما باصات القرى الصغيرة فكانت تتنقل من منطقة إلى أخرى حسب الضغط.
من محطة الباصات كان هناك شارع بدرجات ينزل إلى سوق البلدة القديمة، في أيام الجمع كان الازدحام أكثر ما يشاهد في صلوات الجمع الرمضانية في القدس. كنت تسمع أصوات المواطنين وهم يحذرون الأطفال أو النساء من الإصابة أو السقوط من شدة الزحام. هذا السوق اليوم لا يتجاوز عدد المارين فيه العشرات.
بعد ذلك هناك مسجد القزازين الذي كان له بابان: باب أمامي رئيس من جهة سوق الخضار.. أغلقته قوات الاحتلال مباشرة بعد الاستيلاء على السوق. وباب آخر من الجهة الغربية. كان المسجد لا يتسع للمصلين، خاصة أيام الجمع.. اليوم يشكوا قلة المصلين الذين لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليد.
في سوق الخضار كان هناك عشرات البائعين على بسطات شبيهة بأسواق مدن أخرى مثل نابلس أو البيرة، وكانت هناك مجموعة من محلات البيع بالجملة وهي المسقوفة التي سيطر عليها المستوطنون. بجوارها هناك سوق الملابس القديمة.. سوق مزدهرة في السبعينات ولكنها، أيضاً، أغلقت.
سوق "خزق الفار" أغلق ببوابة حديدية بحيث حاصر الاستيطان السوق بشكل كامل، وأصبحت هناك خارطة جغرافية استيطانية جديدة غيّرت ملامح المكان. البناء الاستيطاني لا يشبه البناء العربي. وهو مختلف تماماً ومشوّه للمنطقة.
هي مجرد ذكريات لمحطة الباصات والسوق القديمة. ذكريات خارطة رسمت في الذاكرة نستطيع وصفها بعد 38 عاماً.
لا فرق في الرواية الشفوية والخارطة المتذكرة بين الخليل القديمة ويافا وحيفا وكل المدن والقرى التي نكبت في العام 1948. ذكريات تنتظر إحداث تغيير بالعودة إلى الأصل، لا نعرف إن كان جيلنا أو الجيل الذي يلينا أو ربما بعد عشرة أجيال سيتمكن من التحرير، ولكن لا بد أن تعود هذه الأماكن للأصل وليس للصورة المشوّهة.
[email protected]
أضف تعليق