في الوقت الذي كانت فيه غزة تشيع جثامين ثلاثة شهداء كانوا قد سقطوا يوم الجمعة الماضي، كان ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين يسقطون، (قتيلان وجريح) في "بركان" شمال الضفة الغربية، يعني ذلك أن المنطق الذي سارت عليه الحكومة الإسرائيلية طوال الوقت الذي مضى، وجعل من ضحايا انغلاق الأبواب السياسية أمام الحل بين الجانبين في تجاه واحد أو على جانب واحد، لن يستمر إلى الأبد.
انعدام الأخلاق ضمن منظومة السياسة الرسمية الإسرائيلية، يبرر لها قبول سقوط الضحايا على الجانب الفلسطيني دون أن يرف لها جفن، بل دون أن تفكر للحظة بأن ممارسة جنودها ومستوطنيها القتل العمد بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، يجعل منهم متوحشين، بهذه الصفة يتحولون إلى عدو على إسرائيل نفسها بعد وقت، ذلك أن التطرف الذي يتسم به المستوطنون وتعزيز نزعة اليمين والتطرف في صفوف الحكومات الإسرائيلية يجعل منها دولة معزولة ومكروهة حتى لو أن الكثيرين يسعون إلى كسب ودها في المدى المنظور، ذلك أنها بهذه الصفة وعلى المدى البعيد تتحول إلى دولة ستجد نفسها في حرب مع الكون بأسره.
كعادتها، شرعت قوات الاحتلال الإسرائيلي بفرض الحصار على بلدتي شويكة وبيت ليد قضاء طولكرم حيث يقال، إن منفذ العملية قد خرج من البلدة الأولى، وكعادتها شرعت قوات الاحتلال باقتحام منزل الشاب في شويكة وأخذ قياسات منزل عائلته تمهيدا لهدمه، كما تفعل عادة إزاء كل عملية من هذا النوع، دون أن يفكر رجال الأمن الثملون بنشوة القوة العسكرية، لحظة بأن معالجة أي مشكلة يجب أن تأخذ بأسبابها أولا، وثانيا لا يجوز ولا بأي حال من أحوال المنطق الأخلاقي معاقبة أي احد آخر، ليس له علاقة لا بتنفيذ ولا بالتخطيط للعملية، حتى لو كان أب وأم وإخوة منفذها، لأن أي أمر من هذا القبيل لا يمكن وصفه إلا ضمن منظومة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل على الدوام بحق الشعب الفلسطيني.
ولأن إسرائيل محكومة بأحزاب متطرفة منذ نحو عقدين من السنين، فإن العقل والتعقل لا مكان لهما في رسم سياستها خاصة تجاه العلاقة مع الجانب الفلسطيني، وإلا لفكرت ألف مرة، قبل أن تطلق العنان لكل أشكال وأساليب وممارسات الاستفزاز والقهر والإذلال بحق المواطنين الفلسطينيين، حتى جعلت من الأرض المحتلة بمثابة قدر يغلي، لكنه محكم الإغلاق، لذا فليس أمامه من سبيل سوى الانفجار، الذي بات مؤكدا وقوعه فإن لم يكن اليوم فغدا.
وفي الحقيقة، فإن حالة "الهدوء" التي تسود الضفة الغربية والقدس ما هي إلا مخادعة، بالتوصيف الأدق هو أنها حالة الهدوء التي تسبق العاصفة، وصحيح أن غزة أبدت منذ عقود استعدادا ربما كان أعلى لرد الفعل بشكل أسرع وربما أعنف، لكن احذروا غضب الحليم إذا غضب، وخلال السنوات الماضية قدمت الضفة الغربية والقدس أكثر من إشارة، ولم تهتم إسرائيل بالوقوف عند الأسباب واستمرت بالاكتفاء بالإجراءات الأمنية.
وإجراءاتها الأمنية تشير إلى أنها، قامت باعتقال نحو 2500 فلسطيني خلال شهري آب وأيلول الماضيين فقط، وأنها صادرت أموالا وسلاحا من بينه نحو ثمانين قطعة محلية الصنع.
وطالما هناك تمييز بين البشر وطالما هناك استخفاف بحياة بشر هنا مقابل مبالغة في تقدير حياة البشر هناك، فإن التعايش الذي تحدث عنه الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريبلين الذي اعتبر عملية "بركان" تضر بإمكانية التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يظل وهما سخيفا، وكلاما نافلا.
وللأسف فإن الإسرائيليين دائما يصرون على أن يصل بعض الفلسطينيين إلى القناعة بأن الإسرائيليين لا يهتمون بحال الفلسطينيين إلا حين يسقط من بين صفوفهم الضحايا، هكذا كانوا دائما وهكذا يظلون، لذا فكأنهم يقولون إنه ليس هناك من طريق يجبر إسرائيل على الاعتراف بالوجود الفلسطيني إلا حين ينجح في إيقاع الضحايا بين صفوفهم.
ربع قرن بالكامل مر على مفاوضات السلام، وعلى توقيع اتفاقات أوسلو التي نصت على حل انتقالي مدته خمس سنوات فقط، يتبعه حل دائم ينهي الاحتلال ويحقق تطلعات الشعب الفلسطيني بحدها الأدنى وهو إقامة دولة مستقلة على اقل من ربع مساحة فلسطين التاريخية، وحيث إن إسرائيل تصر على الاحتفاظ بالاحتلال وتحاصر غزة وتغلق ملف القدس وتشن الهجوم المدمر على ملف اللاجئين، فإنها تدفع الأمور دفعا وبقوة إلى الانفجار، ولا تبقي خيارا للفلسطيني شديد الاعتدال وليس المتشدد فقط، إلا أن يخرج إلى الميدان مقاوما.
الواقع في حالة من الاحتقان الشديد، والانفجار قادم لا محالة، وما هي إلا مسألة وقت، ويقع المحظور، المهم ألا يكون قد فات الأوان على تجنب الفصل الدموي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وان تفكر الحكومة الإسرائيلية للحظة واحدة بعقل وتعقل.
[email protected]
أضف تعليق