بعض جنرالات أمريكا لا تتوقف نجومهم عن اللمعان حتى بعد سنوات، وربما عقود، تعقب إحالتهم إلى التقاعد وهبوط النجوم من الأكتاف والصدور إلى الأدراج والصور التذكارية. وثمة، على الدوام، فرصة أو واقعة أو مناسبة، صغرت هذه أم كبرت، للاستعانة بالجنرال المتقاعد كي يفتي في الشأن العامّ؛ وكأنّ خبرة الحروب الطويلة، التي قد يكتنفها القليل من تجربة السلام، كفيلة في ذاتها لتوفير الرأي السديد، خاصة حين تقع أمريكا في حيص بيص حول قضية شائكة هنا، ومعضلة مستعصية هناك.
في طليعة هؤلاء، اليوم، يحلّ الجنرال المتقاعد أنتوني زيني: القائد الأسبق للقوّات الأمريكية في الخليج وجنوب آسيا، والرئيس الأسبق للقيادة العسكرية المركزية، ومبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن إلى الشرق الأوسط والسلطة الوطنية الفلسطينية تحديداً. أحدث أنساق الاستعانة به، وهو في سنّ الخامسة والسبعين للإيضاح المفيد، كان تكليفه من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستكمال ما سعى البيت الأبيض إلى تدشينه خلال القمة الخليجية ــ الأمريكية الرياض، أيار (مايو) 2017؛ أي إنشاء كيان أمني وعسكري، أقرب إلى «ناتو» خليجي وعربي. المهمة التالية، بعد أن فشلت الأولى عملياً، كانت محاولة رأب الصدع في البيت الخليجي، بأمر من ترامب وتكليف مباشر من ريك تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي يومذاك.
المفارقة أنّ الجنرال المتقاعد غير راض عن الحال الراهنة للسياسة الخارجية الأمريكية، بل يذهب سخطه إلى درجة الجزم بأنها تفتقر إلى التوجه الستراتيجي بعيد النظر: «الخطأ الأكبر الذي ارتكبناه هو أننا توقفنا عن التفكير ستراتيجياً، ولسنا نفكر بنوع العالم الذي نواجهه، وما الذي نحتاج إلى إنجازه، وما السُبُل الأفضل للقيام بذلك». وهذه مصيبة كبرى تتجاوز الاعتلال المؤقت إلى الشلل الدائم، ليس من وجهة نظر أي جنرال خاض حروباً عسكرية وأخرى سياسية، وحمل على صدره أربعة نجوم، فحسب؛ بل هي خلاصة أيّ دبلوماسي مبتدئ، يتقرى خطواته الأولى في علم السياسة. إذْ كيف يمكن للقوّة الكونية الأعظم أن تخلو سياستها من مبدأ التفكير الستراتيجي؟ وكيف يمكن هذا في عصر حافل بالمخاطر، كما يساجل زيني؛ لا تبدأ من البيئة والمناخ، ولا تنتهي عند «حروب السيبر» على مستوى الاتصالات والمعلوماتية، ولا مفرّ لها من أن تضمّ صيغة الحرب الباردة الجديدة التي تمارسها روسيا فلاديمير بوتين؟
هذا، كما يجدر التذكير، جنرال لم تنقصه مؤهلات عالية ذات شأن، في ميادين المناورة القتالية أو ميادين المداورة السياسية: إنه رجل هندسة الجيب العسكري الفاصل في شمال العراق، بعد حرب الخليج الثانية؛ وقائد ترتيبات انسحاب القوّات الأمريكية من الصومال، بعد أن مُني البنتاغون بكارثة عسكرية ــ سياسية؛ والجنرال الذي آمن على الدوام بفضائل التماسّ الإنساني مع قادة المنطقة التي تعمل فيها جيوشه (كأنْ يحتسي الفودكا في تركمانستان، أو يشارك السَحَرة رقصاتهم الشعائرية في كينيا، أو يرافق الأمراء العرب في رحلات القنص البرّي أو الاستجمام على ظهور اليخوت). ويحفظ له التاريخ الأمريكي المعاصر أنه أطلق على رهط المعارضة العراقية التي تعاملت مع واشنطن، قبيل اجتياح العراق سنة 2003، صفة مبتكرة مستمدّة من عالم الأزياء المخملي: «حرب عصابات غوتشي» Gucci Guerillas، التي تُشنّ من لندن!
وفي كتابه «جاهزية القتال»، الذي وقّعه مع الكاتب والروائي توم كلانسي، تابع زيني مآلات المحاذير التي أطلقها ضدّ مغامرة غزو العراق، الأمر الذي عرّضه لاتهامات شتّى معتادة وكلاسيكية، أكثرها عراقة تلك التهمة دون سواها: العداء للسامية! وهو يسرد جملة أخطاء وقعت فيها إدارة بوش حين اتخذت قرار شنّ الحرب، بينها التالية: 1) القناعة بأنّ سياسة الاحتواء غير مفيدة أو معطّلة، رغم أنّ الحقائق تقول إنها نفعت مع الاتحاد السوفييتي، وتنفع اليوم مع كوريا الشمالية؛ 2) الستراتيجية كانت خرقاء لجهة خلق المبرّرات الزائفة من أجل ضمان التأييد الشعبي لقرار الذهاب إلى الحرب، فالوثائق طُبخت في رأيه، والمعلومات الاستخبارية كانت كاذبة أو غير متوفرة ببساطة. وحين مثل زيني أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، وسُئل عمّا إذا كان صدّام حسن يمثّل خطراً وشيكاً، أجاب زيني: «كلا، على الإطلاق. ليس خطراً وشيكاً، ولا قريباً، ولا خطيراً أو محدقاً أو جدّياً أو حتى مزعجاً بدرجة متوسطة… لا شيء من هذا أبداً!».
وفي عداد الأخطاء الأخرى أشار زيني إلى الفشل في تدويل الجهد الأمريكي، الأمر الذي نجح فيه الرئيس بوش الأب ودشّن سابقة لأعراف ما بعد الحرب الباردة، ظلّت صامدة حتى قوّضها بوش الابن دون أيّ أحد آخر! خطأ رابع هو أنّ أمريكا أساءت تقدير حجم المهمة، وضرب زيني أمثلة من جنرالات متقاعدين آخرين على دراية بالمنطقة، بينهم نورمان شوارزكوف وبرنت سكاوكروفت، وقفوا ضدّ الحرب وحذّروا من مغبّة السير خلف خدعة أحمد الجلبي: الناس سوف ترقص لكم في الشوارع! خطأ خامس، ولعلّه الخطأ الأكبر كما كتب زيني، كان الوثوق الأعمى بمعارضة عراقية لفّقت الكثير من المعلومات، وزيّنت لرجال الإدارة أنّ المغامرة العسكرية نزهة. خطأ سادس هو الافتقار إلى التخطيط، وفي شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية قال زيني إنّ التخطيط اقتصر على تفاصيل العمليات العسكرية، وتجاهل إعادة بناء العراق في المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
هذه، بالطبع، أكثر من مجرّد «أخطاء»، والمرء يتفهم حرص الجنرال على إبقاء العباءة الدبلوماسية مسدلة فوق كتفيه، خصوصاً وأنه كان مؤيداً لإدارة بوش الابن منذ البدء؛ أي منذ دراما صناديق الاقتراع في فلوريدا، وصولاً إلى علاقته الوطيدة مع رئيسه العسكري السابق وزير الخارجية اللاحق كولن باول، وانتهاء باستقالته من المهمة التي كُلّف بها في الشرق الأوسط. غير أنّ زيني كان يعرف، من موقع الجنرال الخبير بادئ ذي بدء، أنّ الولايات المتحدة وضعت قدميها في المتر الأوّل للمستنقع العراقي مع تساقط الرشقات الأولى من صواريخ كروز على بغداد. وكان، أيضاً، يعرف أنّ واشنطن تتوغل أبعد في مياه عراقية أخرى غير ضحلة، حيث المفاجئ والطارىء واللامتوقع واللامحسوب: كأنْ يتقاطر جهاديو «القاعدة» إلى العراق من كلّ حدب وصوب، أو أن يصبح الاجتياح الأمريكي للعراق واحداً من أثمن الهدايا الجيو ــ سياسية إلى إيران!
علام، إذن، تتلألأ نجوم جنرال متقاعد مثل زيني، وهو يتخذ كلّ هذه المواقف الناقدة إزاء السياسة الخارجية الأمريكية؟ وما الذي يجذب ترامب إليه، فيرسله إلى الخليج العربي مندوباً عنه، وزيني لم يفوّت فرصة للتعريض بخيارات ترامب، ووزير خارجيته مايك بومبيو شخصياً، رغم عقود من الخدمة معاً في الجيش والأمن؟ ثمة إجابات كثيرة بالطبع، لعلّ أطرفها ذاك الذي يتكئ على علم الاجتماع البشري، وليس الاجتماع السياسي وحده: أنّ الجنرال ــ على شاكلة العَلَم والنجوم والكرامة الوطنية ــ مبجّل محبوب وليس موضوعاً للتجاذب السياسي؛ وأنّ معرفة الجنرال ينبغي أن تُسخّر لخدمة قرار رئيسه المدني، الأمر الذي لا يُسقط حقّ الجنرال في أن يترشح ويُنتخب رئيساً، على شاكلة دواين أيزنهاور في المثال الأشهر.
فهل يسهل على جنرالات أمريكا، المتقاعدين منهم والعاملين، نسيان تصريح ترامب الشهير، خلال الحملة الانتخابية، بأنه يعرف عن «داعش» أكثر مما يعرف الجنرالات؟ وهل من المستغرب، في المقابل، أن يسعى رؤساء أمريكا المدنيون إلى استرضاء مرؤوسيهم الجنرالات، فكيف إذا تقاعدوا عن ميدان القتال وانخرطوا في حلبة السياسة؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
[email protected]
أضف تعليق