أهداني مشكورا الصديق الكاتب الدكتور خالد تركي كتابه الجديد "سفر برلك" الصادر عن مكتبة كل شيء في حيفا، والذي كتب مقدمته المؤرخ الكاتب الأستاذ إسكندر عمل. وجاء الكتاب في 152 صفحة من الحجم الوسط بطباعة أنيقة وحمل الغلاف الأول صورة نادرة من احدى جلسات المحكمة التي جرت لأعضاء التنظيم الماركسي الذي عرف باسم " الشبكة" وعلى رأسهم المناضل داود تركي.
يلاحظ من القراءة الأولى، أن ما يميز كتاب الدكتور خالد الجديد هو سلاسة اللغة وأسلوب الكاتب الأخاذ في صياغة وقائع وقصص تاريخية ومعلومات عامة، وتقديمها للقارىء ليستمتع بوجبة ثقافية تجمع الروح الوطنية التي تقطر من كل حرف من حروف الكتاب، الى جانب السرد القصصي المحكم في بعض جوانبه وتقديم المعلومات العامة بسلاسة وانسيابية، لا تنفصل عن الأحداث التي صاغها المؤلف بأسلوبه الأخاذ الممتع والمشوق.
ويمكنني القول أن أكثر ما شدني في الكتاب الفصل الأول، والذي حمل الكتاب عنوانه" سفر برلك" وهي كلمة تركية تعني التهجير الجماعي، الذي عانى منه أجدادنا حين أصدر الحاكم التركي فرمانا باقتيادهم الى التجنيد في صفوف الجيش التركي في الحرب الكونية الأولى، وهناك قصص وكتب وأفلام (منها فيلم فيروز) تتحدث عن تلك المأساة التي عانى منها شعبنا العربي تحت الاحتلال التركي البغيض.
في هذا الفصل يصف لنا د. تركي قصة تجنيد جده يوسف بأمر من السلطان التركي، وما رافق هذا التجنيد من معاناة شخصية وعائلية للمجند قسرا يوسف، ولكل أبناء الشعب الفلسطيني والعربي الذين لاقوا العذاب والهوان جراء السفر برلك. كما يطلعنا الكاتب على بداية تفتح وعي جده يوسف من خلال ما عاناه، ومن خلال الأسئلة التي طرحها على نفسه حول جدوى تلك الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل، " كيف لي، كفلاح، أن أحارب اخوتي الفلاحين في الطرف الثاني من المعركة" (ص 30). تلك الأسئلة والأفكار أوصلته الى بداية تشكل وعيه السياسي، في ضرورة التقاء أبناء الطبقة المسحوقة لمواجهة المسيطرين على الحكم وخيرات الشعوب.
وجاء الفرج مع انتصار الثورة البلشفية في روسيا وخروجها من الحرب البشعة، وهنا أدرك يوسف مكانه وموقعه، وأخذ ينشط في صفوف تنظيم " عصبة التحرر الوطني" الماركسية مع شقيقه سمعان، الذي عاد من "الفراري" وهذا ما نتابعه في الفصل التالي "ما بعد السفر برلك"، حيث يتابع الكاتب سرد ما حصل لبطل الفصل الأول وشقيقه، من تطور فكري، بعدما طرحا الأسئلة على نفسيهما وتوصلا الى " قناعة بأنه لو كان الأنبياء احياء وعاشوا في عصر البلشفية، لاعتنقوها وساروا على خطاها" (ص 75). فهي تأتي بقيم المحبة والسلام والعدل والمساواة، وهذا ذكرني بما قاله الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر في الاشتراكية، عند رده على المتاجرين بالدين وبين لهم أن الاشتراكية هي العدل والمساواة والكرامة وهذا ما نادى به الإسلام الحقيقي.
ويطلعنا الكاتب على بداية تكوين خلايا الحزب البلشفي في البلاد، وتصديه لموجات الهجرة الصهيونية التي هدفت الى سلب العرب أراضيهم وتهجيرهم، وافراغ البلاد من سكانها الأصليين. ويتابع في الفصل التالي " المنشور" رواية ما أقدم عليه الشيوعيون خاصة في حيفا من محاولة التصدي الفعلي للتهجير عند نكبة 1948، وتوزيعهم المنشور الشهير بدعوة الناس الى عدم الانصياع للمؤامرة الثلاثية، التي ساهمت فيها الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي والرجعية العربية، لكن المخطط الخبيث كان أقوى ومحكما أكثر وأدى الى هجرة غالبية العرب من مدينة حيفا وغيرها من البلدات العربية.
ومن ثم ننتقل الى رؤية المناضل داود تركي (عم الكاتب) ورفاقه الذين أسسوا تنظيما اشتراكيا يهوديا – عربيا مشتركا، يؤمن بالدولة الفلسطينية الواحدة التي تجمع العرب واليهود بمساواة، لكن السلطات الإسرائيلية اعتقلت أعضاء التنظيم، ونسبت اليهم تهما أمنية ومحاولة تشكيل " شبكة تجسس يهودية – عربية ضد الدولة".
** الغالي يرخص لعيونك يا شام..**
يبدأ الكاتب سرد القصة من بلاد الشام التي يحبها ويتفانى بحبها، فالشام هي البلاد التي " شرّفها السيد المسيح بولادته بها، وهي التي أعزّها الرسول العربي الكريم" (ص 20). وهو لا يحب الشام من منطلق ديني انما من منطلق وطني صرف، وما العامل الديني الا تعزيز لهذا الحب، حيث شكل الشام منبع الثقافة الدينية السمحة والوطنية الأصيلة، وهو يحب الشام لأنه ابن هذه الأرض فلسطين جنوب الشام فمعها يبدأ الحب ومعها ينتهي، والفصل الأخير من الكتاب " جميلك يا شام.." شاهد جميل على ذلك ويتمثل في التقاء قامتين سوريتين وطنيتين على خدمة فلسطين وقضيتها والتفاني في ذلك الى حد الفناء في حبها، ويكتمل هذا اللقاء بعقيدتيهما الدينيتين الشقيقتين الاسلامية والمسيحية، وهما الشيخ المجاهد عز الدين القسام والأسقف المناضل المطران هيلاريون كبوتشي، وكيف لا تكون هذه الوقفة والمطران كبوتشي جمعه المعتقل مع المناضل الفلسطيني (عم الكاتب) داود تركي، وجمعتهما القضية وجمعهما النضال وجمعهما الموقف. ويصف لنا المؤلف اللقاء الأول بين الهامتين الكبيرتين " في لقائهما الأول في سجن الرملة، حين دخل المطران كبوتشي الأسر، نظم له المناضل داود تركي، أبو عائدة، استقبالا مهيبا، يليق بالأبطال الشرفاء.." (ص 143-144). وحين رحل المناضل تركي رثاه زميله ورفيقه المطران كبوتشي بكلمات غرفت من سنين النضال ومنها " صمد في وجه الأنواء والعواصف، قاوم وعارك الظلم والظالمين، وخرج من غياهب سجون مرفوع الرأس عالي الجبين" (ص 149). وتبقى الشام بنظره " الفاتحة والخاتمة، هي البدء والمنتهى" (ص 85).
وفي ختام هذه المراجعة السريعة لكتاب " سفر برلك" أتمنى لمؤلفه الكاتب الدكتور خالد تركي، موفور الصحة والعمر المديد لتقديم المزيد من العطاء الفكري واغناء مكتبتنا بكتب قيمة كما عهدناه.
(شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق