إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المهزومة في الملف الكوري والإيراني والسوري لا تجد ما يعوضها سوى أن تحقق "إنجازاً" في ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لذا فهي قد تحولت من "راع" أو وسيط لحل الصراع بين الجانبين، إلى طرف أكثر سفوراً وعدائية للجانب الفلسطيني، ليس بالمقارنة مع من سبقها من إدارات أميركية وحسب، بل وحتى من عدد من الحكومات الإسرائيلية نفسها، خاصة مع وجود الطاقم الذي ضم كلا من كوشنير، غرينبلات، فريدمان وهايلي، ومن قبلهم بالطبع كل من الرئيس ترامب نفسه ونائبه بينس، والذي يظن من يتابع تصريحاتهم ومواقفهم، بأنهم أعضاء أو حتى ناطقون رسميون باسم حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف.
ولم تكتف تلك الإدارة العدوة عند إعلانها الخاص بالقدس المحتلة، بل إنها واصلت من أجل تمرير ما أطلقت عليه من وصف "صفقة القرن" الهجوم على حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، بعد أن رأت بان القيادة الفلسطينية بصمودها، قد منعتها من الإعلان عن تلك الصفقة، فسعت إلى الدخول من بين شقوق الانقسام، ومن جرح غزة الفاغر منذ سنين، وكذلك بالهجوم على ملف اللاجئين، لفرض الحل الإسرائيلي على الأرض، وهي توقعت بان يظل الجانب الفلسطيني ينتظر تلقي الضربات السياسية والميدانية، لكن ومع إقدام القيادة الفلسطينية قبل أيام على الإعلان عن المقترح الأميركي الذي قدمته إليها واشنطن قبل وقت والخاص بإنشاء كونفدرالية فلسطينية/أردنية، فقد جن جنون واشنطن.
إجراءات واشنطن الأخيرة الخاصة بقطع مساهماتها المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومن ثم إغلاق مكتب (م ت ف) في واشنطن، يعتبر حرقاً لما تبقى من جسور بين واشنطن ورام الله، ويعتبر بتقديرنا بمثابة إعلان حرب، أو على أقل تقدير إعلان الدخول في معركة كسر العظم السياسي، التي تتطلب من الجانب الفلسطيني التحلي بالصبر ورباطة الجأش ومن ثم الصمود، والدخول الجدي في التحدي التاريخي، حيث بات واضحاً بأنه لا يمكن إلحاق الهزيمة بالاحتلال الإسرائيلي ولا بالمشروع الصهيوني/الاستعماري في الشرق الأوسط، دون فرض الانكفاء على الولايات المتحدة، وقطع أصابعها الداخلة في أحشائه.
مثار حنق واشنطن يعود أولاً إلى أنها وجدت عدم صد أو معارضة حقيقية لخطة القرن خاصتها في عواصم المنطقة الحليفة لها، بل إن تلك العواصم لم تقم بما يمكن وصفه برد فعل يرتقي إلى مكانة القدس عند العرب والمسلمين حين أعلن ترامب قراره المشؤوم تجاهها، والذي كان يمكن أن يتضمن استعداء السفراء العرب في واشنطن، أو حتى رفض استقبال نائبه مايك بينس كما فعلت رام الله. والى أن العقبة الكأداء في طريق إعلان الصفقة ومن ثم تطبيقها كانت رام الله، ورام الله فقط.
لذا فإن الضغط الأميركي تواصل على العاصمة السياسية المؤقتة لدولة فلسطين، وما أن رد الرئيس محمود عباس بالإعلان عن حقيقة المخطط الأمريكي/الإسرائيلي، بإنشاء الكونفدرالية الفلسطينية/الأردنية حتى جن جنون واشنطن.
وفي الحقيقة فإن إعلان الرئيس عباس، ادخل عنصر صد آخر في مواجهة الهجوم السياسي الأميركي، فهو ذكّر العرب والأردنيين على وجه الخصوص، بأن خندق الدفاع الأول عن الحقوق الوطنية الأردنية إنما هو نجاح المشروع الوطني الفلسطيني، وأن إقامة الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين هو الضمانة الوحيدة لوأد المشروع اليميني الإسرائيلي الخاص بالحل عبر مشروع الوطن البديل.
لذا فان الإعلان الفلسطيني أعلاه قد عزز من الصمود الفلسطيني، وأدخل عقبة أخرى أمام عجلة صفقة ترامب، وقد كان ترامب نفسه قبل أيام، قد أعلن على الملأ لأول مرة صعوبة مهمته التي كان يظنها أقل صعوبة في "إيجاد حل" لأعقد ملف في الشرق الأوسط.
المهم الآن، هو أن المعركة باتت مفتوحة على مصراعيها، وترامب الذي يراهن على نجاحه ليس فقط في صد محاولات إخراجه من البيت الأبيض المرتبطة بفضائحه الجنسية وفضائح التدخل الخارجي لصالحه في الانتخابات الرئاسية، ولكن أيضا في الولاية الثانية، التي ستجري عام 2020، اعتماداً على ما حققه من "إنجازات اقتصادية" ويقصد بالطبع ما قام بالسطو عليه من أموال الخليج العربي، حيث إذا كانت هذه سياسة ترامب وهذه رؤيته فإنه يمكن القول أصلاً بأن الهدف الرئيسي من صفقة القرن ما هو إلا هدف اقتصادي عند واشنطن، يريد ترامب من خلالها تحقيق التصاق أكبر لدول الخليج الثرية بجيبه الداخلي، وكذلك "تشغيل" عجلة الاقتصاد العسكري الأميركي، ومحاولة تحقيق إنجازات سياسية على حساب "الضعفاء" في الشرق الأوسط، وهم بالطبع ليسوا سوى العرب، فترامب لا يتمتع بمخيلة الزعيم السياسي التاريخي، لذا فهو قد هرب من ميدان المعركة الكوري، كذلك يخشى أن يدخل عش دبابير إيران، وهو بالطبع يرى كيف أن وجوده هامشي في سورية، فليس هناك سوى الخليج الغني وليس سوى إسرائيل لتدعم وجوده في البيت الأبيض، ولأن على رأسه "بطحه" فهو يخشى من اللوبي اليهودي الداخلي، وهكذا تمضي سياسة البيت الأبيض لعامين قادمين على أقل تقدير، لذا لابد من إستراتيجية مواجهة فلسطينية، تعتمد على قدرة الشعب الفلسطيني أولا ومن ثم قدرة الشعوب العربية على رسم برنامج مواجهة يعتمد الاحتجاج الشعبي المتواصل، لقبر ليس مشروع الوطن البديل وحسب، بل وكل صفقة القرن.
[email protected]
أضف تعليق