يتداول التخطيط العمراني الحديث في العالم عددا من المنظومات التخطيطية لبناء المدن والبلدات ومن أبرزها تخطيط "المدينة السعيدة". اذ يشتمل البحث العلميّ على أدلة وبراهين واضحة تكشف كيف يؤثر المكان والمباني والعمارات في بلدة ما على حياة الناس وسعادة الناس وتصرفات الناس والطريقة التي يعامل بها الناس بعضهم بعضا، وانه بإمكان التخطيط والتصميم العمراني ان يعزز سعادة الناس في البلدة او المدينة. وتعني السعادة من منظور التخطيط ان يشعر المرء بالفرح اكثر من الحزن، ان يشعر بالأمن، ان يشعر بالسلامة الصحية، ان يشعر بالقوة الاقتصادية، ان يشعر انه ينتمي الى مجتمع، ان يكون لحياته معنى والأهم من ذلك ان يهنأ بروابط وعلاقات اجتماعية حيوية. وينعم سكان المدينة بالسعادة، حسب تلك المعايير، ان كانت احياء المدينة مرتبطة ومتواصلة وتتميز بالعلاقات الانسانية والاجتماعية الغزيرة بين ابنائها. ولهذا الغرض علينا ان نصمّم المدينة بحيث تكون احياؤها مترابطة ومتواصلة، ان تحتوي المدينة على اماكن تسمح بالتعدد والتنوع الثقافي، وان تصمم الطرقات والمباني على نحو يعزز المشي والسير على الاقدام وذلك كي يحتك الناس ببعضهم ويتواصلوا ويتعرفوا على ثقافة بعضهم البعض.
اذن، هل بلداتنا العربية سعيدة وكيف نجعلها كذلك؟ في الحقيقة من يمعن النظر في مبادىء تخطيط المدينة السعيدة المذكورة يجد ان بلداتنا العربية بعيدة جدا عن حالة السعادة. اغلب بلداتنا العربية مكتظة سكانيا، تعاني الفقر والبطالة والاختناق، وتعاني العنف الحاد وجرائم القتل والجرائم الخطيرة بشكل يوميّ تقريبا. وللتخطيط في نظري قسط كبير من الذنب والمسؤولية. ان دولة اسرائيل أهملت اكثر من ستين عاما التخطيط في البلدات العربية. عدد كبير منها لا ينعم حتى الان بخرائط هيكلية حديثة تعزز كرامة الانسان وأمنه وحقوقه وسعادته. وعدد كبير من البلدات العربية "خطط نفسه بنفسه" من خلال تشييد الأبنية السكنية والتجارية والصناعية دون ترخيص وتنظيم هيكليّ وذلك لغايات السكن والعيش والتطور. ولانعدام التخطيط المنظم الذي حجبته دولة اسرائيل عن البلدات العربية ردحا من الزمن، لم تصمم البلدات العربية بشكل يقوي العلاقات بين الناس والتلاحم الاجتماعي ويقوي ثقة الناس ببعضهم، وعلى نحو كان بامكانه ان يحوّل بلداتنا العربية الى أحب وأجمل وأسعد الاماكن للعيش. في عملية التخطيط المذكورة وهي حالة "عدم التخطيط هو التخطيط عينه" لم يكن للمواطنين في البلدة العربية قرار وسيطرة على حياتهم واراضيهم ومساكنهم. بل ان حالة الاختناق العمراني وأزمة السكن والتطوير في البلدات العربية أدت الى حالة من التآكل الاجتماعي الداخلي أهم تجسداته هو انعدام الانتماء للقرية وللبلدة العربية وللمجتمع العربي وعدم الثقة بهم وسيطرة القوة والعنف والسلاح على الخطاب والتعامل بين الناس بدل تبادل الثقافات والحوار والتعايش والانسجام والتلاحم الاجتماعي.
أوافق عالم الاجتماع روبرت بارك الرأي حين قال قبل نحو 100 عام ان البلدة هي اكثر من شوارع وابنية واعمدة كهرباء ومركبات ومدارس ومقاهي او مجرد حيز جغرافي من أرض وتراب، بل هي حالة انسانية ونسيج من العادات والاعراف والثقافات، وحالة اجتماعية ناتجة عن تصرفات وتفاعلات الناس الذين يسكنون فيها، حين تصقل المدن تصرفات سكانها ويصقل السكان شكل مدنهم من خلال تصرفاتهم وعلاقاتهم الانسانية والاجتماعية اليومية. وإنطلاقا من فهم البلدة او المدينة بهذه الصورة، علينا حين نتعامل مع تخطيط البلدات العربية ان نعطي الاهتمام المناسب للجوانب الانسانية والاجتماعية في البلدة العربية وان نسعى لتصميم الاراضي والمباني والشوارع والحيز العام بشكل يعكس المجتمع العربي الجميل الذي نصبو اليه. علينا ان نخطط لبناء الانسان قبل ان نخطط لبناء العمارات، وان نخطط طرق التواصل والتلاحم بين الناس قبل ان نخطط الطرق والشوارع بين أراضيهم، وان نخطط تنوع الثقافات والحوار بين الناس قبل ان نخطط تنوع المباني والاراضي. علينا ان نصبّ صورة المجتمع الجميل الذي نطمح اليه في تخطيط أراضينا وأحيائنا وشوارعنا وبيوتنا. علينا ان نفكر كيف نؤمن بواسطة التخطيط العمراني السعادة والأمن والرخاء والمحبة والثقة والتلاحم بين الناس في بلداتنا العربية. ولا اتوقع هذا التفكير من التخطيط الحكومي الذي تحركه إدارات التخطيط المركزية والعليا في اسرائيل بخصوص البلدات العربية، فقد حوّل ويحوّل هذا التخطيط أكثر بلداتنا العربية الى تجمعات سكانية مكتظة تخدمنا للنوم فحسب ودون ان يكون للتخطيط دور حقيقي في بناء مجتمع سليم ومتقدم. بل هي مسؤوليتنا كمواطنين وسلطات محلية ومختصين ومؤسسات مدنية ان نغيّر مفاهيم التخطيط في البلدات العربية وان نناضل الا يتعامل التخطيط مع البلدات العربية والمواطنين العرب بالارقام وبالنظريات الرياضية والهندسية عن عدد الوحدات السكنية او ارتفاع المباني او عرض الشوارع. علينا ان نناضل ان يكون التخطيط وسيلة للوصول الى حياة اجتماعية يشعر المواطن العربي فيها بالأمان وبالانتماء وبالكرامة وبالثقة بالنفس وبالرضى، حتى تكون البلدة العربية المدينة السعيدة حقاً.
* مرشح للقب الدكتوراة في القانون من جامعة تل ابيب.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
اهمال السلطات والبلديات العربيه وتهميش العرب من قبل الدمله حول القرى والمدن العربيه الى مخيمات الداخل اذا صح التعبير.