منذ فترة طويلة وأنا أفكر في هذا الموضوع، منذ فترة طويلة وأنا أشعر أن ثمة مشكلة، مشكلة كبيرة أبرز ملامحها: غياب المجلة الثقافية الفلسطينية الورقية؛ الموضوع ليس حنينا للورق أو إلى الرائحة، الموضوع أيضاً ليس حنيناً إلى زمن قديم.
الموضوع له علاقة وطيدة بهيبة النص، وجديته، وحتى عمقه.
لماذا أشعر أن تلويثاً ما يصيب النص عندما أنشره على صفحة "الفيس بوك" أو على موقع إلكتروني؟! لا أدري...
لماذا أشعر أن قيمة نصي الفنية والموضوعية حين أنشره على مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية ليست هي ذات القيمة حين أنشره في مجلة ورقية! لماذا أشعر أنني مختلف ومميز حين أنشر في مجلة ثقافية ورقية وأنني عادي ومبتذل وسهل ومتوقع حين أنشر على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية؟ ..
لماذا أشعر أن النشر في مجلة ثقافية ورقية يشبه الإقامة بجزيرة هادئة نظيفة جميلة لا يستطيع زيارتها إلا من يمتلك قارباً قوياً بلا ثقوب، وأن النشر في صفحات التواصل الاجتماعي يشبه الإقامة في سوق خضار مثلاً أو في حارة شعبية؟!! ما الذي يمنح النشر في مجلة ثقافية ورقية ما يشبه الحصانة الأدبية؟ الموضوع تماماً يشبه أيضاً أن تقبل المشاركة في أمسية شعرية مع شاعرٍ رديء (والجميع يعرف أنه شاعر رديء).. إن للقصة أبعاداً كثيرة: أولها هي أنني شخصياً أرغب تماماً بالابتعاد عن الثرثرات والضجيج والمهاترات والاتهامات والتفاهات التي تعج بها صفحات التواصل..
حول المجلة الثقافية الورقية هناك سور عالٍ وهناك أبواب لا يملك مفاتيحها التافهون والعابرون والدخلاء والمتطفلون وهم كثر، أما على صفحات التواصل فلا أبواب ولا أسوار ولا مفاتيح، إنه سوق تماماً، سوق يدخله أي شخص.
أتذكر نصوصي في مجلة الكاتب الفلسطيني التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أسعد الأسعد، كما أتذكرها في مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير (محمود درويش).. كما أتذكرها في مجلات: عديدة: نزوى، دورية أخبار الأدب الثقافية، إبداع، أدب ونقد، والعديد من مجلات الأدب الثقافية الورقية العربية، نشرت هناك أولى إبداعاتي الأدبية القصصية، كنت حينما أرى نصي أشعر بفرحٍ غريب لسببين: الأول هو اعتزازي بأن اسمي يتجاور مع أسماء ادبية محترمة في العالم العربي، والثاني هو شعوري بالحماية من تطفل أدعياء الثقافة والكتابة ومن تدخلاتهم المتعجرفة والسطحية تحت عنوان الحق في إبداء الرأي.
الموضوع ليس أنني ضد أن أتلقى آراءً للقراء حول نصوصي، أبداً على الاطلاق.. فأنا أرحب دوماً بكل الآراء، سواءً ايجابية كانت أو سلبية بشرط أن تكون من أشخاص جديين يقرؤون الكتب، ويحترمون خيارات وأذواق الأدباء. على صفحات التواصل بإمكان أي شخص كان أن ينتحل شخصية آخر ويقتحم خلوتك وبيتك ومكتبتك وفضاءك وشجرك وأصدقاءك.. ليسبك ويحتقرك، فقط لسبب واحد هو أنه منزعج لأنك نشرت نصاً جميلاً أحبه الكثيرون ..
المجلة الثقافية الورقية ليست وسيلة حماية للكرامة الشخصية للكاتب فقط؛ بل هي أيضاً لحماية النص الأدبي وصيانة كرامته، ولخلوده أيضاً، في المجلة الورقية تعيش النصوص أكثر، على صفحات التواصل تتعرض النصوص الى الركل والشتم والجرح، والتشويه والسرقة، والسحل أيضاً..
مرة أخرى، هذا ليس حنيناً لماضٍ جميل ذهب ولن يعود، فبإمكان المجلة الورقية أن تتواجد في زمننا هذا. ولا أدري لماذا لا تتواجد؟ حديثي هذا ليس ضد المواقع الإلكترونية المحترمة، أنا أتحدث عن ابتذال وإساءة استخدام المواقع وابتذال الصفحات وابتذال النصوص الإلكترونية، حديثي هذا له علاقة بخيار شخصي يميل للعزلة والكتابة البعيدة عن العجقات وللصيحات والشجارات والازدحام المروري الأدبي، هناك وجه آخر للقصة أظن أن تواجد الكاتب المستمر عبر صوره ونصوصه وأمسياته عبر الشبكة يضر بهيبته وبوجوده الأدبي وبشخصيته الثقافية، وهناك مثال شديد السطوع هو محمود درويش، ذلك العبقري الذي فهم أن انتشار نصوصه لا يعتمد على عمقها فقط وعلى جمالها، بل على إدارته لشخصيته الثقافية وعلاقاته الاجتماعية ولحضوراته واختفاءاته من الساحة الثقافية، هذه ليست دعوة للاختفاء الجسدي عن الساحة الثقافية، فالتواجد الجسدي جيد ولكن يجب ضبطه وإدارته بشكل ذكي. أريدكم أن تتخيلوا محمود درويش كاتباً فيسبوكياً، ينشر ويضع "لايكات" ويتلقى "لايكات" ويشكر المعجبين، ويكتب لهم (اشكر مروركم الكريم) ويكتب تحت صور أصحابه (منوّر)، ويكتب غاضباً:(يا أصدقاء مضطر لحذف كل من لا يتفاعل مع نصوصي). أليس هذا المشهد أقرب للكابوس؟
في المجلة الورقية هناك تواجد للنصوص، وهناك غياب لجسد وصورة صاحب هذا النص ولحياته الشخصية أيضاً ولعلاقاته، أعرف شاعرين فلسطينيين يكتبان بنفس الجودة وبنفس العمق وبنفس الجمال، وأراقب كيف يستقبلهم الناس حينما يحضران الأمسيات الشعرية، أحدهم يحضر كل الأمسيات بشكل متواصل وأحدهم يحضر من بين عشر أمسيات أمسية واحدة، أراقب كيف يستقبل القراء والجمهور الشاعر الذي يحضر دائماً والشاعر الذي لا يحضر دائماً؛ ألاحظ اللهفة والرغبة بالاقتراب من الشاعر الذي لا يحضر دائماً، وألاحظ الفتور والاعتياد تجاه الشاعر الحاضر دائماً. تماماً هذا ما يحدث مع المجلة الورقية ومع صفحات التواصل الاجتماعي.. تخيل نصاً يأتيك كل شهر مثلاً عبر مجلة ورقية دون صورة لصاحبه ودون صوت وصخب وتعليقات ودون مديح من أحد، يأتيك في عزلتك الجميلة، في مدينتك الجميلة، يجلس معك، يمتعك ويطير بك إلى أماكن جديدة من هذا الوجود!.
يشبه الموضوع أيضاً أن تذهب إلى صندوق البريد لتفتحه وتخرج رسالة مغلفة من صديق جميل تحبه، هذه الطريقة في وصول الرسالة إليك وإخراجها بالتأكيد، تختلف عن طريقة تلقيك لنفس الرسالة عن طريق "الإيميل" مثلاً أو "الماسنجر".. هل وصلت فكرتي؟
[email protected]
أضف تعليق