في زيارتي العائلية السنوية الثامنة للندن (والعاشرة منذ أوسلو) مشيتُ مع ابنتي وحفيدي من مبنى (بي. بي. سي) إلى مقر الحكومة في ويستمنستر. كانت مسيرتي العائلية هي أول مشاركاتي في تظاهرة احتجاج سياسية، خارج فلسطين والعالم العربي، ضد زيارة رئاسية ترامبية أميركية إلى بريطانيا.
يحلو لي أن أصِف الرئيس ترامب بأنه "عنطوز"، وهي لفظة شامية تعني "شايف حالو". وتصادفت زيارته الأولى لبريطانيا مع ثلاثة أسابيع مشمسة وجافة، لم تشهدها الجزيرة منذ قرن كامل. اصفرّ بساط حدائق لندن الأخضر عادة من احتباس أمطار الصيف.
سرّني أن أرى علماً فلسطينياً في مسيرة الاحتجاج، وأدهشتني لافتة تطالب بالحرية للسيدة الأميركية الأولى، ميلانيا، أسيرة الرئيس الـ 45 الذي يحتل البيت الأبيض ومعه يحتل زوجته!
اقترف الرئيس "العنطوز" تجاوزات البروتوكول الملكي، وكذا في الأعراف الدبلوماسية حيث وصف وزير الخارجية المستقيل، بوريس جونسون، بأنه جيّد ليخلف، رئيسة الحكومة تيريزا ماي، في زعامة الحزب ورئاسة حكومة، ودعم شبيهه جونسون، الذي يرى في سياسة ماي لشروط خروجها من الاتحاد الأوروبي، بأنها سياسة "باب موارب" أو رِجل في البور وأخرى في الفلاحة.
منذ التصويت الإنكليزي على "الخروج" من الاتحاد تتصدّر مسألة "البريكسيت" نشرات الأخبار على التلفاز. تعلمون أن للاتحاد 28 عضواً هي نجوم ذهبية خماسية، واختصار خيار "الخروج" هو رسمة يخرّ منها شعاع يرسم العلم البريطاني!
الشعب منقسم على نفسه إزاء سياسة "الخروج" وكذا الحزب الحاكم منقسم على نفسه إزاء شروط الخروج، وحزب العمال المعارض، بزعامة جيرمي كوربين، متحد ضد "الخروج"، ومنقسم حول الرئيس اليساري للحزب، الذي يدعم صراحة اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية، وفق تصويت سابق لمجلس العموم ومجلس اللوردات.
دعم ترامب الصريح والعلاني للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي له أسبابه، التي تعود إلى الخلاف الترامبي مع الاتحاد حول السياسة الحمائية الأميركية التجارية، تحت شعاره "أميركا أولاً".
قيل ويُقال الكثير حول دور روسي في فوز ترامب وحزبه الجمهوري على منافسته الديمقراطية هيلاري، لكن هل هي مصادفة أن موسكو بوتين تهدف في سياستها الأوروبية إلى تفكيك عرى الاتحاد الأوروبي، ولكن لأسباب سياسية، لأن اتحاد بروكسل ابتلع دول أوروبا الشرقية السوفياتية، كما ابتلع حلف "الناتو" حلف "وارسو" محققاً نبوءة الجنرال ديغول، مؤسس بدايات الاتحاد مع المستشار أديناور: "أوروبا من الأطلسي إلى الأورال" أي إلى القسم الأوروبي من الاتحاد الروسي.
انتقلنا من زمن القطبية الدولية السياسية الأيديولوجية العسكرية؛ إلى زمن التجمعات الاقتصادية التجارية، مثل مجموعة العشرين، وG7، ومنظمة شانغهاي.. وأخيراً تجمّع فوق قاري خماسي يدعى B Rics من: الصين، روسيا، الهند، البرازيل وجنوب أفريقيا، عقد قمته العاشرة، هذا الأسبوع في جوهانسبورغ.
أميركا الترامبية الحمائية التجارية تتملّص من عضويتها في الكتل التجارية الدولية، حتى مع كندا، وتكاد تتملّص من قيادتها المالية لحلف "الناتو"، بينما روسيا بوتين تنسج علاقة مع تركيا، صاحبة أكبر وأقوى جيش في "الناتو"، إلى حد التهديد بفرض عقوبات أميركية على تركيا إن تسلّحت بصواريخ S400 الروسية.
صحيح، أن الولايات المتحدة، هي أقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، وأن الصين (ودول البريكس) تتحداها مستقبلياً، لكن سياسة "العنطوز" ترامب تُفقِد أميركا الهيبة والاحترام الدوليين المرافقين لشروط القوة الأعظم عسكرياً واقتصادياً، وعملياً تكاد واشنطن تقيم علاقة خاصة جداً مع دولة واحدة هي إسرائيل.
موسكو بوتين تقيم علاقات متوازنة مع إسرائيل وفلسطين، كما مع تركيا الأردوغانية وإيران الملالي. لوحظ أن بيان قمة دول "البريكس" في جوهانسبورغ قدم دعماً سياسياً، أيضاً، لسياسة موسكو بوتين، إزاء قضايا سورية وفلسطين ـ إسرائيل، كما إزاء موقف موسكو من نقض واشنطن التزامها باتفاقية 5+1 في فيينا مع إيران.
للرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون شعاره: "إنه الاقتصاد يا غبي" وهو تطوير لشعار نابليون: "الجيوش تزحف على بطونها".
الاتحاد الأوروبي بدأ اقتصادياً آخر الخمسينات من العقد الماضي بين ألمانيا وفرنسا، وتطور إلى السوق المشتركة، ثم الإطار السياسي، لكنه يبقى أوروبياً، وحتى مع خروج بريطانيا، ستبقى لغته السياسية إنكليزية.
هل تبقى أميركا الحمائية هي الأولى عالمياً في الاقتصاد والقوة العسكرية، إزاء تحدي روسيا والصين ودول "البريكس" الاقتصادية ـ السياسية؟ هذا هو سؤال النصف الثاني من القرن الحالي.
[email protected]
أضف تعليق