مما لا شك فيه أن هناك تغيّرات طرأت على البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمقدسيين منذ الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في العام 1967 وحتى يومنا هذا، ولكن ليس إلى حد الادعاء أن سلطات الاحتلال قد نجحت في مخططاتها.
منذ اليوم الأول للاحتلال كان هناك مخطط إسرائيلي قائم بالأساس على التهويد والأسرلة وتغيير الطابع الجغرافي والديمغرافي للقدس الشرقية.
سلطات الاحتلال نجحت في بعض الجوانب شئنا أم أبينا، ولكنها فشلت في جوانب أخرى، على الرغم من سياسة العصا والجزرة التي تواصل انتهاجها بحق المقدسيين.
من القضايا التي نجحت سلطات الاحتلال فيها، عزل الأحياء المقدسية (التي أصبحت تبدو كجزر في بحر استيطاني كبير)، وتدمير أي تواصل جغرافي بين هذه الأحياء بجدار الفصل العنصري والاستيطان ومنع البناء، وتقليص مساحات السكن فيها إلى أدنى نسبة ممكنة.
سلطات الاحتلال نجحت في الشأن الثقافي خلال السنوات الماضية، وكنا دائمي التحذير من الغربة التي يشعر بها المقدسي، وخاصة الأجيال الشابة من الأطفال والفتية الذين أصبح اتصالهم بالضفة أقل بكثير من آبائهم وأجدادهم، فيما يبدو أن اتصالهم مع فلسطينيي الداخل بات أكثر عمقاً، والحال ينسحب على اتصالهم مع الإسرائيليين بحكم الواقع والعمل والخدمات والقوانين التي تفرضها سلطات الاحتلال عليهم، المتتبع للتغيرات الثقافية يلاحظ أن هناك فرقاً بين جيل ما قبل الـ67 وجيل ما بعد أوسلو، حتى على صعيد التعامل مع المادة الثقافية الإسرائيلية وعلى سبيل المثال الأغنية الإسرائيلية. لكن الأهم من ذلك كله عمق الجذور الفلسطينية للمقدسيين والتي لم تستطع سلطات الاحتلال تغييرها.
ربما يظهر للبعض أن هناك تغيراً فوقياً قد طرأ، ولكن الأساس في القدس هو أن الوطنية الفلسطينية العميقة أقوى من كل المتغيرات.
وفي هذا السياق، يدعي دافيد كورن، مستشار رئيس بلدية الاحتلال نير بركات لشؤون القدس الشرقية، في مقابلة نشرت في صحيفة «إسرائيل اليوم» بتاريخ 27/7/2018 (يوم أمس) أن هناك «دراما عظيمة» تجري للمقدسيين وهم في «مفترق تاريخي» حسب تعبير كورن. ولكن ما هو هذا المفترق؟
يقول كورن: إن هناك تراجعاً واضحاً للوطنية الفلسطينية فيما يَبرز تنافس واضح بين الأسرلة والأسلمة. ولهذا فهو يوصي بضرورة المساعدة في تحويل مبدأ الإقامة للمقدسيين إلى المواطنة.
طبعاً سلطات الاحتلال منذ العام 1967 تعتبر المقدسيين مجرد مقيمين فقط لا يتمتعون بحق المواطنة إلاّ من يحصل منهم عليها من خلال تلبية مجموعة من المطالب.
المواطنة الإسرائيلية كانت في عرف المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام «خيانة مطلقة» ولم يتوجه إلى المواطنة والحصول على الجنسية الإسرائيلية سابقاً إلاّ العملاء والحثالة.
ولكن في واقع الأمر فإن المشهد بعد أوسلو قد تغير. وعلى العكس بدأت سلطات الاحتلال تشدد إجراءاتها في وجه المقدسيين الراغبين بتحويل الإقامة إلى مواطنة.
توصية كورن تعتمد كما يقول على آلاف الساعات التي قضاها خلال منصبه في الحديث مع المكونات المقدسية.
وعند سؤال بعض المثقفين المقدسيين عن سبب الانحراف نحو مطالبة عدد أكبر من السابق بالمواطنة، كانت الإجابة ربما أكثر من واضحة وهي: المقدسيون لم يروا في السلطة الفلسطينية نموذجاً يمكن الاحتذاء به من جانب، والأمر الآخر هو الحصول على حقوق وصمود ربما يعتقد البعض مخطئاً أن المواطنة الإسرائيلية تقدم الحماية له.
حقيقة الأمر أن المواطنة الإسرائيلية لا تقدم أي حماية لحاملها بل على العكس ربما تكون وبالاً عليه لأنها تنفي المقدسي عن محيطه الفلسطيني والعربي. ومن هو غير مقتنع فليشاهد نموذج إخواننا الدروز الذين يطلق عليهم الإسرائيليين شركاء الدم ولكن في قانون القومية تم قذفهم إلى سلة مهملات السياسة الإسرائيلية.
يتحدث كورن عن الأسرلة فيقول: اذهبوا إلى باب العامود ولاحظوا مدى التغيرات، وعلى الأقل مستوى تعلم اللغة العبرية لتجدوا أن هناك عشرات المدارس والمعاهد التي تنشر إعلاناتها لتعليم اللغة العبرية.
ويتطرق إلى المنهاج الإسرائيلي، وازدياد عدد الطلبة المقدسيين الدارسين للمنهاج الإسرائيلي فبينما كان عددهم لا يزيد على العشرات قبل سنوات أصبح عددهم الآن أكثر من 7000 آلاف طالب والعدد في ازدياد.
وبالنسبة للأسلمة، هناك مجموعات تحاول أن تتبنى هذا النهج مقابل ضعف واضح للمكونات الوطنية الفلسطينية.
السؤال: ما هو السبب الذي أوصل المقدسيين إلى هذا الوضع، وما هو المطلوب فلسطينياً لإعادة قوة الروح إلى الوطنية الفلسطينية التي تحاول سلطات الاحتلال اجتثاثها من القدس؟
لا شك في أن السلطة الفلسطينية، ومن خلال اتفاقات أوسلو تتحمل جزءاً من المسؤولية عن هذا الوضع. وبالتالي يجب إعادة النظر في عمل السلطة في القدس، أو على الأقل إعادة الاعتبار لأولئك المناضلين الذين قدموا الكثير قبل أوسلو وتم تهميشهم بعد ذلك.
المطلوب هو زيادة الميزانيات والدعم المقدم للمقدسيين وخاصة في مجال السكن والتعليم والثقافة. يجب أن يقتنع المقدسي أنه عندما يقرر دخول المعركة مع منظري الأسرلة أو الأسلمة بمفهومها السياسي فهو مرتكز على أساس قوي وداعم من أجل فرض قيمه وثقافته، لا على أساس ضعيف قد ينهار في أي لحظة.
نحن بحاجة إلى إستراتيجية واضحة فيما يتعلق بالمقدسيين، تقوم على أساس مساعدتهم مادياً ومعنوياً لمواجهة الأسرلة بشكل خاص وللعودة إلى امتدادهم الفلسطيني، لأنه الخيار الرئيس ودونه ستكون كارثة عليهم وعلى أبنائهم والأجيال المقدسية.
نجحت سلطات الاحتلال ما بعد أوسلو في تغيير بعض المظاهر الفوقية للمقدسيين. ولكنها لم تنجح في نزع جذورهم الوطنية، ولعل انتفاضة الأقصى الأخيرة (انتفاضة البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى) أكبر دليل على عمق الجذور، وأن الأسرلة ومظاهرها في الشارع مجرد مرحلة آنية، ومع ذلك يجب محاربتها بلا هوادة لأن الخطر هو على الأطفال والفتية أي الجيل المقبل. فهل من سبيل للتحرك قبل فوات الأوان. وحتى لا نخسر كما خسرنا في قضايا كثيرة آخرها قضية اللاجئين...!!!
[email protected]
أضف تعليق