كم مرة تم الاتفاق على المصالحة والتوقيع من قبل الأطراف المعنية وعلى رأسهم حركتا "فتح" و"حماس"، وكم مرة تم التهليل بأن هذه المرة ستكون مصالحة حقيقية لا تشوبها شائبة، لأن الأمور قد نضجت، ولأن الوحدة الفلسطينية هي الأساس لإفشال كل المؤامرات التي تحاك ضد القضية الفلسطينية.
لا نرغب بالعدّ، ولكن الحقيقة الثابتة أن كل المحاولات السابقة، التي جاءت برعاية إحدى الدول العربية، بدءاً من السعودية ثم قطر ثم مصر، بأكثر من محاولة، قد فشلت.
أحجية المصالحة تذكّرنا بفيلم مصري للفنان الراحل أحمد زكي المتهم بجرائم قتل، ولكن عند كل مرة يتم القبض عليه فيها، تقوم شخصيات متنفذة بمساعدته في الهروب من السجن، كي تشغل الرأي العام، في قضيته؛ للتغطية على قضايا سياسية أهمّ وأكثر خطورة، وبالتالي إشغال الناس في قضية على حساب قضايا أخرى رئيسة.
والمصالحة الفلسطينية تعود للحياة بعد بيات شتوي أو صيفي، عندما تكون هناك أزمة تعصف بأحد طرفي المصالحة الرئيسيّين وهما حركة "فتح" التي تمثل السلطة الفلسطينية في الضفة، وحركة "حماس" المسيطرة بالقوة على الأوضاع في قطاع غزة.
بعد كل عدوان إسرائيلي على قطاع غزة كانت حركة "حماس" أكثر استعداداً للبحث في هذا الملف، بمعنى أن هناك مصلحة لها في التخلص من ملفات سياسية أكثر أهمية، وضاغطة بشكل أكبر.
وبعد الحرب السورية وخروج "حماس" والخلافات العربية مع إيران أيضاً تنازلت حركة "حماس" قليلاً وقبلت بإجراء محادثات المصالحة في هذه العاصمة أو تلك، أو من خلال هذا الوسيط أو ذاك. وبعد الأزمة المالية الخانقة وإغلاق المعابر والحصار الإسرائيلي المستمر أيضاً قبلت "حماس" بإعادة البحث في ملف المصالحة.
طبعاً الأحداث كثيرة والسابقة هي أمثلة فقط، أما في الجانب الآخر بالضفة الغربية على مستوى حركة "فتح" والسلطة الوطنية الفلسطينية، فإن إثارة ملف المصالحة والتأكيد على ضرورة الوحدة تأتي في ظل ضغوطات كبيرة تتعرض لها السلطة. بعد انهيار المفاوضات السياسية مع الجانب الإسرائيلي، كان هناك قبول من السلطة و"فتح" لإجراء جولة من المحادثات للمصالحة. وبعد كل أزمة سياسية داخلية أو خارجية يكون هناك توجه فتحاوي لإثارة هذا الملف.
ولعل صفقة القرن أكبر دليل على ذلك، لأن السلطة الفلسطينية هي بحاجة ماسة لتوحيد الشعب الفلسطيني، من أجل ترسيخ قدرتها على المواجهة وتحمّل الضغوط الإقليمية والدولية.
في آخر اتفاق للمصالحة في القاهرة، وكان أيضاً برعاية المخابرات المصرية، تم الاتفاق بين الجانبين على مبدأ أساس ومهم وهو تمكين حكومة الوفاق الوطني، والاتفاق على القضايا الخلافية بعد ذلك، واستبشرنا خيراً، بل بُشّرنا خيراً عندما قالوا: إن هذه المرة لا بديل، لأن مصر ستكون الطرف الراعي للاتفاق وإن أي فصيل أو حركة لا تنفذ ستتحمل المسؤولية أمام المصريين؟ ومن يستطيع ذلك؟!
ولكن المفاجأة أنه بعد أيام بدأت الخلافات تظهر وبحدة... بداية من مفهوم التمكين وليس انتهاءً بالمحاصصة المالية والرواتب والأراضي واتركوا الأمن والأجهزة الأمنية إلى النهاية، لأن القضية الأمنية أكثر تعقيداً وقابليةً للتفجير.
بدأت الخلافات وانفرط عقد الاتفاق الأخير، واتهمت السلطة وحركة "فتح"، حركة "حماس"، بمواصلة السيطرة على القطاع وبأن دور الحكومة ثانوي وأن التمكين يعني تسليم كل شيء دون نقاش و.. و.. و.. حتى وصل الأمر برفض الصيغة اللبنانية أي سيطرة عسكرية لفئة على الوضع في غزة.
"حماس" من جهتها سيّرت تظاهرات الموظفين، وبدأت بحملة إعلامية ضد السلطة، ويمكن مراجعة ذلك في وسائل إعلامها المرئية والمسموعة والمقروءة... حتى وصل الأمر لأكثر من التخوين لقيادات في قمة الهرم حتى قاعدته.
الأسابيع الماضية، وربما الأشهر الثلاثة الماضية، حملت ضغوطاً كبيرة على الطرفين في الضفة والقطاع.
على مستوى السلطة وحركة "فتح" جاءت قضية "صفقة القرن"، ومحاولة الإدارة الأميركية فرضها كحل سياسي لصالح الاحتلال بشكل مطلق، منهية قضايا القدس واللاجئين والحدود.
الخروج من هذا المأزق بالنسبة للسلطة ولـ"فتح" هو العودة من جديد لملف المصالحة.
في قطاع غزة بدأت مسيرات العودة ربما قبل أيام من انهيار الأوضاع في قطاع غزة. و"حماس" وجّهت التظاهرات من الداخل إلى الحدود ونجحت في ذلك. ولكنها لم تنجح في رفع الحصار أو تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ما زاد من غضب الجماهير. بعد ذلك جاءت أفكار أميركية جديدة باختراق الوضع السياسي من قطاع غزة تحت مظلة الأوضاع الإنسانية، ولكن هناك ثمناً لتحسين الأوضاع الاقتصادية يجب على حركة "حماس" دفعه وهو ثمن أكبر من أن تتحمله. والسلطة شعرت بأن الأمور ستتعقد وستؤدي إلى ضرب القضية الفلسطينية وانهيار السلطة إذا جاء الحل من قطاع غزة؛ لأن ذلك يعني ضياع الضفة، في ظل ضغوط هائلة تتعرض لها.
هذه الأوضاع الجديدة ربما هي التي عجلت في أن تدخل المصالحة الباب الدوّار للمرة "المليون"، لأنه لا بديل عن ذلك في ظل هذه التطورات.
ولكن إذا ما دققنا في بنود الورقة المصرية برعاية جهاز المخابرات المصري، فإننا سنلاحظ أن الإشكاليات هي نفسها لم تتغير من اليوم الأول للانقسام ولسيطرة "حماس" على القطاع، بل زادت المشكلة مع تغيّر الأجهزة الأمنية. بحيث أصبحت مؤسسات عميقة في الضفة والقطاع، وربّما رب العالمين وحده هو القادر على حل الأحجية الأمنية. وستظل أيضاً قضايا الرواتب والموظفين والحصار والسيطرة والحكم في كل من الضفة والقطاع قضايا تفجيرية دائمة.
ربّما نجحت كل من "حماس" و"فتح" في إدارة قضية الانقسام والمصالحة، ولكن هناك شكوكاً كثيرة وعميقة في تحقيق مصالحة حقيقية تقوم على تحقيق إرادة الشعب وليس المنظمات والأحزاب.
ما يثير الضحك المرّ أن نفس القيادات التي أقسمت في الكعبة المشرفة على المصالحة هي السبب في كل ما يحصل... واليوم هي نفسها التي تؤكد على حدوث اختراق جديد؟!
[email protected]
أضف تعليق