بغض النظر عن مآل مسيرة العودة، التي منذ شهر بدأت تراوح مكانها، بعد أن أدت على ما يبدو وظيفتها السياسية التي سعت إليها حركة حماس من وراء إطلاقها بدءا من يوم الأرض في الثلاثين من آذار الماضي، مرورا بيوم النكبة والذي صادف يوم نقل السفارة الأميركية فعليا ورسميا من تل أبيب إلى القدس، ومن ثم عدم إطلاقها بقوة في ذكرى حزيران قبل شهر، إلا أنها أظهرت كثيرا من الحقائق السياسية التي لا بد من التمسك بها، وعدم إهدارها، ولا بأي حال من الأحوال.
أظهرت المسيرة أن الكفاح الشعبي السلمي أنما هو طريق يمكن جدا السير عليه، لأنه فعال جدا، وهو الشعار الذي طالما طالبت به القيادة الفلسطينية منذ سنوات إلى أن اقتنعت به أخيرا "حماس"، وإن بشكل جزئي، أي بهدف تكتيكي ولغرض تحريك ملف غزة بالذات وبالتحديد، دون إطلاق أو تحريك مجمل الملف الفلسطيني خاصة ملف الاحتلال وبالمعنى السياسي.
كذلك أظهرت مسيرة العودة أن شعبنا الفلسطيني ما زال وسيبقى دائما على استعداد للانخراط في مجرى الكفاح الوطني مهما بلغت التضحيات، وأنه يمكنه وفي أي وقت أن يقلب الطاولة على رؤوس الأعداء وحتى أن يعيد ملف الصراع إلى نقطة الصفر، فلا أحد عليه أن ينسى بأن الشعار الناظم للحراك الشعبي كان مسيرة العودة لفلسطين الـ 48 وليس من أجل حرية التنقل مثلا بين أطراف دولة فلسطين على حدود 67 ولا من أجل كسر الحصار عن قطاع غزة، وإلا لكان قد خرج تجاه مربع الحدود، أي في الشمال والشرق تجاه إسرائيل، وفي الجنوب تجاه مصر، وفي الغرب عبر البحر.
ثم أظهرت مسيرة العودة قدرة شعبنا عن الإبداع والخلق والابتكار، فبعد أن بلعت "حماس" لسانها، ولم تعد تتبجح لا بصواريخها ولا بأنفاقها التي صرفت عليها الأموال من أفواه الجائعين، واستخدمتها وما زالت كحاجز لمنع إنهاء الانقسام، رأينا جموع الشباب يقومون أولا بإحراق عجلات السيارات المستعملة للتشويش على رؤية القنص الإسرائيلية، ثم يقومون بقص الأسلاك الشائكة، ثم بإطلاق الطائرات الورقية لإشعال الحرائق في حقول القمح الإسرائيلية القريبة من الحدود.
الغريب بالأمر هو حالة الفزع الإسرائيلية التي أحدثتها تلك الطائرات الورقية، حيث حين فكر مستوطنو غلاف غزة بالرد بالمثل، فشلوا فشلا ذريعا، وها هم يفكرون بالرد على الحراك المتسلسل بأيام الجمع، من خلال الاستعداد للجمعة المقبلة بتحريض من عائلة هدار غولدين الجندي الإسرائيلي الذي هو أسير حيا أو ميتا لدى "حماس" منذ العام 2014، لإطلاق ألف طائرة ورقية إسرائيلية.
حرب طائرات ورقية هي إذا، بعد أن فشلت إسرائيل في اعتراض الطائرات الورقية الفلسطينية بقبتها الحديدية وحتى بصواريخها، ورغم أنها تدرك بأن الخطر الناجم عن الطائرات الورقية الآن سينتهي مع انتهاء فصل الصيف، ففي الشتاء، لن يكون بمقدور الطائرات المشتعلة أن تشعل الحرائق، لكن بالتأكيد يمكنها أن تفعل شيئا آخر.
ومن المؤكد بأن الطائرات الورقية الإسرائيلية المزمع إطلاقها يوم الجمعة القادم، وكذلك المناشير التي ستلقيها على مواطني غزة، لن يكون لها ولا أي تأثير على شعب الجبارين، لكن ربما أنها تحاول أن ترفع من معنويات الإسرائيليين الذين يرتعبون من الطائرات الورقية.
الغريب أن هذه الطائرات الورقية، ومع مرور الوقت يتم إجراء تحسينات تقنية أو فنية عليها، لدرجة أن يطلق على من يقوم بإطلاقها وإعدادها اسم وحدة البالونات والطائرات الورقية الحارقة "أبناء الزواوي"، كذلك أن تضاف البالونات والتي معظمها كان عبارة عن واقيات ذكرية، دخلت غزة من أجل تحديد أو تنظيم النسل، إلى الطائرات الورقية، وأن ترفق بزجاجات حارقة وربما قنابل بدائية، والأهم أن تصل إلى مدى قد وصل فعلا إلى 45 كم.
يعيد الكفاح الشعبي الفلسطيني إذاً الاعتبار للحروب الشعبية حيث كانت الشعوب تبدع في مواجهة الاحتلال الأجنبي من استخدام قنابل المولوتوف إلى الزيت الحارق إلى الهجوم على قوات المظليين الغازية بالطناجر والصحون كما فعلت نساء بورسعيد العام 1956.
ومن يدري ماذا سيكون عليه الحال في القادم من الأيام، شرط أن يستمر الكفاح الوطني الشعبي بالانسياب قدما، وكم من بعوضة أدمت مقلة الأسد، وكم من سلاح شعبي بسيط ألحق الهزيمة بأعتى الجيوش المدججة بكل أدوات القتل وبأحدث الأسلحة.
السؤال الذي سنجد أجابته واضحة بعد أيام قليلة، هو هل ستكتفي الحكومة الإسرائيلية بالرد على الطائرات الورقية الفلسطينية عبر مثيلتها الطائرات الورقية الشعبية الإسرائيلية، أم أنها ستظل تواجه صدور الفلسطينيين العارية برصاص القتل، والطائرات الورقية الفلسطينية بالطائرات الحربية الحقيقية. أما إن استمر مواطنو غلاف غزة بالرد على "جيرانهم بالمثل"، فربما يفتح هذا الفصل من المواجهة بابا ظل مغلقا، وهو أن يدخل المواطنون على الجانبين على خط المواجهة المباشرة، بما يجعل من لغة التخاطب بينهما أكثر واقعية، فيتم الرد على ما تخطط له عائلة هدار غولدين واورون شاؤول من نشر بوستات على المواقع لإعادتهما إلى ذويهما، بالمطالبة بالإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم عهد التميمي، وفتح طريق عودة اللاجئين إلى وطنهم، وفق شعار مسيرة العودة نفسه، فالحرية حق إنساني لا يمكن اجتزاؤه، وإذا كان من الطبيعي أن يشمل هذا الحق القليل من الإسرائيليين فلا بد له أن يشمل الكثير من الفلسطينيين.
[email protected]
أضف تعليق