"الحرب لأجل الحرب" ليست مطلباً، ولا هدفاً يتطلع إليه الفلسطينيون، الذين دفعوا دماء غالية على مدى العقود الثمانية الماضية، فتطلعاتهم الأساسية تكمن في الاستقلال والتخلص من الاحتلال.
في الانتفاضة الأولى، لم تستثمر التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني، والذي أبهر العالم بمواجهته المحتل بالحجر، وجل ما توصلنا إليه في النهاية اتفاق أوسلو الذي كان بحاجة إلى 100 اتفاق لتفسير بنوده الغامضة.
الانتفاضة قدمت للقيادة فرصة ذهبية لا يمكن تعويضها، ولكن الاستثمار السياسي لها كان محدوداً للغاية، الأمر الذي انعكست نتائجه بشكل مأساوي على ما تبعها من أحداث.
اكتشفنا في السنوات الأولى للاتفاقية أن نضالات الشعب قد ضاعت في دوامة مفاوضات لم تنته، وأن جلّ ما كان يريد قادة الاحتلال تقديمه في الانتفاضة الثانية، أو ما أطلق عليها "انتفاضة الأقصى" هو حكم ذاتي محدود في كانتونات معزولة، على الرغم من الكثير من الشوائب التي لحقت بها، وكثير من الخطايا التي ارتكبت باسمها، فإن الانتفاضة الثانية كان يمكن أن تقدم فرصة لإنجاز سياسي. ولكن أيضاً هذه الفرصة لم تستغل، بل على العكس من ذلك تدهورت الأوضاع الفلسطينية على جميع الصعد سياسياً واقتصادياً وغيرها.
ثم بعد ذلك حرب غزة الأولى والثانية والثالثة، ورغم ما أطلقت عليه بعض فصائلنا "الانتصار العظيم"، إلاّ أن ذلك لم يترجم سياسياً على الأرض، بل على العكس من ذلك فرض الاحتلال حصاراً خانقاً امتد على طول عشر سنوات. حيث أصبح فك الحصار على سلم الأولويات، أي المطالبة بالعودة إلى المنطقة التي كنا فيها في العام 2008.
حتى فيما يتعلق بـ"الجنائية الدولية" نحن أمام مسار طويل ومعقد، وكل من يعتقد أن الجنائية الدولية هي مثل محكمة صلح في رام الله أو غزة فهو واهم، وهو يقدم للناس حبات فستق فارغة، أو ربما حبوب مخدرة لتجاوز لحظات صعبة ما. والمستغرب أكثر أنه مع وقوع حادث فردي أو جماعي فإن الأصوات تعلو لمحاكمة القتلة والمجرمين أمام الجنائية؟! ولهذا السبب كان استغلالنا للمحكمة ليس بدرجة يمكن تحقيق إنجازات فيها. صحيح أن ملف العدوان على غزة أمام المحكمة ويمكن لهذا المشوار أن يستغرق عدة سنوات. وأيضاً قد نواجه بمواقف أميركية أكثر تشدداً لأنه في النهاية مجلس الأمن له الصوت الأخيرة والحاكم.
أحداث غزة الأخيرة، أو مسيرات العودة وهي نقطة مضيئة في تاريخ الشعب الفلسطيني النضالي، وهي مقاومة شعبية حقيقية، مغايرة لواقع عشناه في الضفة قبل سنوات من خلال المسيرات الأسبوعية، التي أصبح عدد المشاركين في بعضها لا يتعدى 10 أشخاص، والأمثلة على ذلك كثيرة.
مسيرات العودة أعادت للأذهان مشاهد الانتفاضة الأولى التي شاركت فيها مختلف الفئات من الأطفال إلى الشباب والشيوخ والنساء. كما أنها تعبر عن رغبة شعبية حقيقية في تغيير الواقع، ولهذا كان من الواجب استثمار هذه الهبة الجماهيرية الشعبية شعبياً، بغض النظر عن تحكم فصيل أو حركة في بعض القضايا.
ذروة مسيرات العودة كانت في الرابع عشر من الجاري عندما شارك عشرات الآلاف في المسيرات المتعددة في القطاع والتي ارتقى خلالها أكثر من 60 شهيداً وأصيب خلالها الآلاف بينهم نحو 50 إصابة في حالة موت سريري. ما أثار انتقادات حادة للاحتلال على مستوى العالم.
لأول مرة بعد حروب غزة وأحداث الأقصى تعود القضية الفلسطينية لتكون في الواجهة بقوة، وتكون ردود فعل العالم أكثر جرأة وسخونة من الردود العربية سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي.
السلطة الفلسطينية من جهتها تجهتد لتحصيل ثمن سياسي للاعتداءات الإسرائيلية. ولكن يبدو أن المحصلة لم تصل إلى الحد الأدنى المقبول فلسطينياً.
صحيح أن هناك اجتماعا لوزراء الخارجية العرب في القاهرة وهناك اجتماعا إسلاميا في اسطنبول. ولكن للأسف فإن هذه الاجتماعات كما التي سبقتها ستصدر بيانات صارخة شاجبة دون آثار ملموسة على أرض الواقع.
وعلى سبيل المثال لا يمكن فهم تكليف أمانة الجامعة العربية وضع خطة للتعامل مع الدول التي ستنقل سفاراتها للقدس؟! أليس ذلك مثيراً للاستغراب. ماذا ينفع أمام القوة الكبرى التي تحدت كل العرب والمسلمين والعالم ونقلت سفارتها، أم أن القوي "مسموح له"؟!
آخر المعلومات تقول إن حماس دخلت في مفاوضات لوقف مسيرات العودة أو على الأقل ألا تتحول إلى مواجهات كبيرة أو اقتحام سياج الفصل العنصري، وذلك في مقابل تخفيف الحصار، وعدم الإضرار بقادة الحركة، والمحافظة على الوضع القائم (الهدوء) إلى فترة طويلة.
إذا ما صحت هذه المعلومات فإن هذا يعني أن الاستثمار السياسي للدماء الزكية لن يتحقق، وأن المكاسب الحزبية بالمطلق لا تعني استثماراً بل هي أقرب إلى المنفعة الشخصية على حساب الوطن.
مرة أخرى الشعب الفلسطيني يناضل ويقدم الأرواح في ملعب المواجهات والقتال، ولكن دون أن تكون هناك قيادة قادرة على الاستثمار الحقيقي.. ولعل الانقسام هو العامل الأكثر أضعافاً لتحقيق أي إنجازات سوى مزيد من بيانات الشجب والاستنكار. في الوقت الذي تصبح فيه المواقف أكثر حيادية تجاه الاحتلال والعدو الإسرائيلي كما كان يسمى سابقاً!
[email protected]
أضف تعليق