بالضبط الآن، بعد مضي سنة منذ قتل جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ابنه، محمد نخله لم يتوقّف عن بكائه. عندما زرناه ببيته، غداة موت ابنه، حافظ على ضبط النفس وظلّت عيناه بلا دموع. لكنه هذا الأسبوع تغيّر وجهه ثانية، وارتجفت ذقنه، وحاول بكل قواه إيقاف بكاءه، حيث هدّده بالانفجار.
من النادر أن ترى رجالا فلسطينيين يبكون، لكن نخله بكى هذا الأسبوع على ابنه جاسم، بعد أن قُتِل برصاص الجنود، بعد عيد ميلاده أل – 16 بيومَيْن، بكى على كل ما جرى منذ ئذ. ليس فقط أن الزمن لم يداوِ جراحه، إنما منذ ئذ تراكمت المصائب في حياته. مثلا، ألغت إسرائيل تصريحه للعمل في مستوطنة بيت آيل حيث عمل فيها بالترميمات سنين طويلة، لأن ابنه قُتِل. هكذا تتصرّف الدولة مع العائلات الفلسطينيّة الثكلى – تضيف ضائقة اقتصاديّة على الحزن بحُجج غير صحيحة بأنهن قد ينتقمن.
الآن نخله أبٌ ثاكل وأيضا عاطل عن العمل. تعيش عائلته من مخصّصات 1500 شيكل، يتلقاها من السلطة الفلسطينيّة كأب ثاكل ،هذه "مخصّات ألمخربين" التي يستغيث اليمين الإسرائيلي بهستيريا بسببها ويعمل ضدّها، وهي مصدر الرزق الوحيد لمَنْ فقد ابنه بدون سبب.
جاء نخله هذا السبوع إلى مكاتب اللجنة العموميّة في مخيّم الجلزون للاجئين. عندما كُنّا هناك، وجاء غيره من سكان المخيم لتدبير أمورهم، وتبين أن كلا منهم عبارة عن مأساة تمشي على أرجلها. ضحيّة اخرى من ضحايا روتين الاحتلال، يتنافسون مع بعضهم في عُمْق مآسيهم. هذا فقد ابنه، ولذاك ولدان في السجن ويحكي الثالث عن اقتحام جيش الدفاع الإسرائيلي لبيته ليلة أمس، فقط ليسألوا أين تسكن عائلة أخرى.
مقابل مخيّم المصائب المُزدحم هذا تمتدّ بيت إيل، المستوطنة القديمة والكبيرة التي تخنقه. يبين تقرير منظمة بتسيلم، التقرير الذي نُشِر هذا الأسبوع، كيف يعاني سكان المخيم من تقييد تنقّلاتهم بسبب قيام بيت إيل على الجانب الثاني من الشارع. الشارع الموصل للمخيّم، والفاصل بينه وبين المستوطنة، الشارع رقم 466، وقد يُغْلَق بدون إشعار مُسْبَق وبدون أيّ سبب. أحيانا لساعات وأحيانا أخرى لأسابيع، فيضطر سكان المخيم للسفر بطرق بديلة.
وجد واضع التقرير، المحقق إياد حدّاد، تقريرا آخر كان قد وضعه سنة 1990، قبل حوالي 30 سنة، خاص بجمعية حقوق الإنسان الفلسطيني وهي مؤسسة ألحق. باستثناء سكان المخيّم الذي تضاعف عددهم - يعيش في مخيم الجلزون حاليا حوالي 14 ألف نسمة – لم يتغير كثيرا من وضعه تحت الاحتلال.
الأفراح ممنوعة
ما الذي لم يمرّ على هذا المخيم يومئذ، في الانتفاضة الأولى، منع تجوّل لمدّة 42 يوما متتالية، 700 مواطن مُعْتَقَل، 400 جريح، 37 اقتحام للمدارس. وما الذي لا يعاني منه اليوم. نائب رئيس اللجنة العمومية في المخيم، حسين عليان، يروي لنا بالتفصيل: نسبة البطالة بين الشباب أبناء 18– 40 بلغت 45%، ونسبة البطالة بين النساء 75%. بصعوبة تجد عشرة أشخاص معهم تصاريح عمل في إسرائيل. حوالي مائة شخص في السجن، وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي يقتحمون المخيم كلّ ليلة. جُرِح هذا الأسبوع ريّان دلاش، فتًى عمره 14 سنة، أُصيب برصاصة مطّاطيّة برأسه، وهو يرقد الآن فاقدا وعيه في المستشفى في رام الله، هو آخر جريح حتى الآن من المخيّم.
كان الشارع الرئيسي في المخيّم هذا الأسبوع مستنقعا من الوحل اللزج، سقط المطر والجرافات تحفر قناة. أكوام النفايات في كل مكان. غزّة على بُعْد رُبْع ساعة سفر عن أورشليم. مدرستان تابعتان للأونروا موجودتان خارج المخيّم، على جانبي الشارع الرئيسي – للبنين على جانبه الشرقي، تطلّ على بيت إيل، وللبنات على جانبه الغربي. جيش الدفاع الإسرائيلي يمنعهم من فتح الشبابيك للجهة الغربية، حيث يوجد قُدْس الأقداس – المستوطنة.
بنهاية السنة الماضية، عندما زادوا طول جدار الإسمنت الذي يحضن مستوطنة بيت إيل من الجهة الغربيّة، أغلق جيش الدفاع الإسرائيلي الشارع لعِدّة شهور، فقط ليسهل العمل على جانب الشارع. تخيّلوا أن يُغلق خطّ مواصلات رئيسي لليهود لمدّة شهور، فقط لأنهم يقيمون بجانبه جدارا. قبل شهور أُغْلِق الشارع خلال زفاف في المخيم لأنهم يطلقون ألعابا نارية. وأيضا الفرح المتواضع ممنوع هنا. يوم الأحد من هذا الأسبوع أُغْلِق الشارع أيضا، هذه المرّة لنصف يوم.
دخل محمد خطّاب إلى المكتب، عمّ الفتى محمد خطّاب الذي قُتِل مع نخله قبل سنة. شكّ الجنود بأن أحد المسافرين بالسيّارة سيرمي زجاجة حارقة على سور بيت إيل، فرشقوا السيّارة بالرصاص الحي بدون تمييز، قتلوا اثنَيْن وجرحوا آخَرَيْن.
الحالة الراهنة لدى خطّاب: أخوه وابن خيه في السجن، في الأسبوع الماضي اقتحم الجنود بيته. "تخيّل أنك تستيقظ في الليل وترى أن جنديا يصوّب بندقيّته علَيْكَ. وزوجتك بجانبك بقميص النوم. وإن حاولت شيئا، تجد أن حياتك في خطر. سيطلقون النار عَلَيْكَ. هكذا هو الاحتلال، ليس لك الحقّ حتّى في الدفاع عن نفسك،أو عن كرامة زوجتك أو عن أولادك. لدي ثلاث بنات، أكبرهن ابنة 16 سنة، وقد أُصيبت بحالة هلع عندما شاهدت الجنود داخل البيت. قالت لي بعد ذلك: ’أنت أبي. أعرف أنك قويّ. إذن لماذا لا تدافع عنّي؟‘ لم عرف بماذا أُجيبها. شرحت لها أن هكذا هو الاحتلال ويستطيع الجنود اقتحام بيتنا متى يشاء لهم".
يجلس جانبا محمد دلاش، 16 شخصا من أبناء حَمولته في السجن، بمَنْ فيهم اثنان من أبنائه. أحمد 22 سنة وحمزه 16 سنة. حمزه اعُتقِل مرّة، عندما كان عمره 14 سنة وأُدين بالسجن بتسعة أشهر بتهمة إلقاء الحجارة و- 2000 شيكل غرامة، يشهر مستند الدفع المختوم الذي يحمله دائما.
الغرامات التي تُفْرَض هنا مبالغ فلكيّة، من المؤكّد أنها بمفاهيم مخيّم اللاجئين. الأسبوع القادم، بالضبط قبل يوم النكبة، ستبدأ محاكمة حمزه. ستطلب النيابة حبسه سنتَيْن ونصف السنة بتهمة إلقاء حجارة."كيف يمكن مساواة إلقاء الحجارة مع اقتحام جندي مُسلّح ببندقيّة أم – 16 لبيتك في منتصف الليل؟"يتساءل خطّاب.
ورائد دلاش في الغرفة، اعْتُقِل ابنه وعمره 13 سنة في بداية فبراير/شباط من هذه السنة ولا زال معتقلا. أخوه في السجن وأيضا ابنا أخيه، الأول ابن 17 سنة والثاني 19 سنة. اعْتُقِلَت زوجته وأطْلِق سراحها بكفالة مقدارها 10.000 شيكل، بعد أن حاولت أن تهرّب لابنها في السجن رُقْعَة سيم لجهاز محموله. من أين يحصلون على هذه المبالغ؟ من العائلات. كل يتبرع بشيء. تتوارد الحكايات من كل حدب وصوب. لا يوجد هُنا مَن هو بدون حكاية، لا توجد هنا عائلة غير منكوبة.
ممنوع من الشاباك
لنعود للأب الثاكل، نخله. بعد مقتل ابنه بشهر واحد حصل على تصريح عمل لثلاثة أشهر في بيت إيل. ومع انتهاء الأشهر الثلاثة أبلغوه بعدم تجديد تصريحه. وأنه "ممنوع من قِبَل الشاباك" [المخابرات]. هو مقتنع أن السبب لأنه قدّم شكوى في الشرطة عن مقتل ابنه. في محموله، بجانب صورة ابنه جاسم الوسيم، صورة لمستند الرفض: "نموذج الردّ على طلب. طلبُكَ مرفوض. لأسباب أمنيّة". لم تنفعه التوصية الخطيّة التي حصل عليها من شركة "إيرص هتصفي، شركة للبناء"، وقد عمل في هذه الشركة خلال الأربع سنوات الأخيرة والتي طالبت بهذه الرسالة تجديد تصريحه. وهذه الرسالة مصوّرة بمحموله، احتياطا لكل الحالات.
يُعيل نخله تسعة أنْفُس. هو مُحْترف لمهنة الدهان وأعمال الجبس (الجبصين - المترجم)، أنيق بمظهره، عاطل عن العمل منذ سبتمبر/أيلول. "فقدت ُابني. وفقدتُ عملي. لم أستطع إيقاف ابني. كل فتًى هنا يعرف أن الإسرائيليين هم الذين قتلوا صديقه أو أخاه. حاولتُ منعه من الاقتراب إلى بيت إيل، أحيانا كان يطيعني وأحينا أخرى لم يُطٍعْني".
قبل مقتل جاسم بسنة اقتحم الجنود بيتهم. ضربوا الأب وأذلّوه أمام ابنه. جاؤا في حينه فقط كي يسألوا أين تسكن عائلة روضه. يقول نخله إنه لم يفهم ما يريده الجنود ولذلك لم يُجِبْ فورا. اعتقدوا أنه يحاول المخادعة ولذلك ضربوه أمام ابنه. "كيف يمكنني إقناع ابني بأن لا يذهب ويلقي الحجارة، وكل هذا جرى أمام ناظرَيْه؟ يحدث مثل هذا في البيت، في المدرسة، في العمل، في حفلات الزفاف. أبناؤنا كأنهم يعيشون هنا في منطقة حرب. كيف نوقفهم؟ وماذا فعل ليقتلوه؟ أنا بحياتي لم أضربه، أوشكتُ على ذلك، عندما عرفت أنه ذهب لإلقاء الحجارة، لكن بربكم كيف كان يُمْكٍن إيقافه، وكل هذا يحدث يوميّا؟
عاد للبكاء ثانية.
[email protected]
أضف تعليق