إذا كانت الأمور الآنيّة قد عَجِزت عن استكتابِنا، إلاَّ في سياق الضَّرورات، فإن بعض الأمور والقضايا التي تتجاوز الأبعاد الآنية ، إلى ما قبل وما بعد الراهن، تدفعنا دفعاً إلى التأمل بها وفيها، وتناوُلِها في سياق خَيارات العقل والحياة والحرية...
وعلى الرغم من إشكاليات أدوات العقل، وما تحمله من نَسَقية في التحليل والإستنتاجات، وما فيها من مُؤثِّرات إنفعالية وعاطفية جرّاء " الإنتماءات والهُويّات"، فإنه من الممكن، باعتقادي، إعمال العقل وتفعيل أدواته بما يتجاوز العقل نفسه. بمعنى أنه يمكن تقليص مساحة المؤثِّرات الجانبية أو الهامشية، كالعاطفة والإنفعال والمَوْروث والمنقول، وحتى الإنتماء أو الهوية أو الذاكرة، في التعامل مع شؤون تتطلب مِنَّا أقصى درجات الجُرأة والعمق والتجرُّد، في سبيل صناعة المستقبل عبر فهم الماضي وإدراك الحاضر...
انطلاقة واضحة وبسيطة وإنْ بَدَتْ مُركَّبة، أضِف إليها أنَّ " الإعتدال " في التفكير هو خيانة للعقل،وتبرير الضعيف لغياب إرادته .. أي أنه يمكننا أن نتصرف ونسلك "بإعتدال "، لكن يجب أن نفكر بمنطق العقل ومعاييره التي لا حدود لها ، ومن ثَمّ التحرُّك وفقاً لمقتضيات الصِّراع والواقع، على أنْ نسعى دائماً لتوسيع حَيِّز " المُمْكِن " ، وتقليص مساحة "المستحيل"، فكلما اتَّسَع المُمْكِن ضاق ما يبدو مُسْتحيلاً..
واستناداً إلى تلك الذهنية، أتناول هنا والآن مرةً أُخرى، قضية نكبة الشعب الفلسطيني، في ذكرى مرور 70 عاماً على " بداياتها " ، من جوانب تجعل فِعْل الكِتابة عملاً ديونيسياً مجيداً، من خلال رسائل سريعة عابرة للجغرافيا والزمان وحدود الكلمات، ولا نهائية..
وأُشير هنا، أيضاً ، أنني كنت قد نشرتُ مقالاً حول هذه المسألة، بنفس الرُّوحيّة والمضمون، قبل نحو عقد من الزمان٬ دون التعرّض للموضوع من باب الاستعراض المعرفي والمعلوماتي، والذي بات مَمْجوجاً بتفاصيله الدراماتيكية وخطوطه السيزيفية المكوِّنَة للمَشْهَد، سيِّما أن المعرفة المعلوماتية لا تصنع بالضرورة تفكيراً، إذا لم تتدفَّق في حركة نهر التأمل والتفكُّر والنقد والعمل،لأن رُكود المعرفة يُحوِّلها إلى مجرد مُستنقع آسن ..!؟
ثَمَّة مواقف يمكن الاتفاق حولها، وقراءات يُمكِن الموافقة عليها.. فقد نتفق أن النكبة حدث مُؤسِّس للقضية الفلسطينية، وإزالة آثار وإسقاطات هذا " الحدث " شرط ضروري، يترتب عليه تحقيق أي شكل من أشكال " السلام " العادل أو النسبي، كحلٍّ لهذه القضية.. معنى ذلك أن فِعل العودة إلى الوطن يُجسِّد ذلك الشرط الضروري للسلام أو أبرز تجلّياته، وليس التمسَّك بمجرد " حق العودة "، فالمشروع الأساس هو العودة كحق وليس أحَقية العودة...
ويمكننا أن نتفق، أننا أمام هذه الذكرى من " النكبة "، وليس على النكبة أو للنكبة. أي أنَّ حقيقة دَيْمومة النكبة واستمراريتها لا رَيْب فيها ... وبهذا المعنى فإن النكبة ترافق الشعب الفلسطيني، ليس في ماضيه فحسب، وليس كذاكرة جماعية وفردية فقط، إنما في حاضره أيضاً . وهذا الأمر لا يتبدَّى كواقعٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس حصراً. فإذا كانت النكبة تعني الكارثة الوطنية ذات الطابع القومي، أو التطهير العرقي بتعبير أدَقّ، فإن ذلك "المشروع الصهيوني"، كمشروعٍ استعماريّ كولونياليّ وليس فقط احتلاليّ، مُتواصِل ويجري تنفيذه يومياً في النقب والمدن الساحلية، وفي المثلث والجليل، دون أدنى شك، وهذا "المشروع" يتمظهر بأشكال وأدوات وتشريعات مُتعدِّدَة الأطياف، لكنها تصبّ في النهاية في المشروع ذاته، وللغايات عَيْنِها. فالنكبة إذن، تعني كارثة وُجودية وطنية وقومية للشعب العربي الفلسطيني، تجلَّتْ بتطهير عرقي فَجّ عام 1948، لكنها بدأت نظرياً وعملياً قبل هذا التاريخ عبر مُقدِّمات ودَلالات عِدَّة، ولم تتوقف عند ذلك التاريخ، في إطار هذا التعريف...
والتطهير العرقي هنا يعني إرتكاب جرائم القتل والإبادة والتدمير نحو التهجير القسريّ من الوطن..
وجوهر المشروع المتواصل هو: تهويد الأرض – المكان، وأسْرَلَة الفلسطيني – الإنسان. وأسْرَلة مَنْ بَقوْا في وطنهم، لا يعني تهويدهم طبعاً، ولا يعني جعلهم مواطنين اسرائيليين، بل مَسْخ شخصيتهم ومصادرة هُويتهم الوطنية وتحويلهم لكائنات هُلاميّة وآميبية لا مواطنية لديها، تفكّر وتسلك بعقلية وذهنية إسرائيلية٬ لا سيّما أن جهوزيتنا البنيوية للتأقلم مع الواقع المفروض والأسرلة والدونية، لا حدود لها، بالرغم مما أنجزناه من بقاء وصمود وتطوّر نسبيّ في الوجود والوعي..!!؟
وفي هذا المفصل من القول، دعونا نتفق على ما قد نختلف عليه أو حوله، أو ما قد نتباين في توصيفه وفي استشرافه.. ودعونا نعطي الأشياء معناها وقيمتها، بعيداً عن الإنفعال، ودون الإفراط في التشاؤم الكافكوي، الذي يعتبر أكثر تفاؤلاً من الواقعية الخُضوعية، أو العقلانية الوَهْمية...
فليس ما نَدَّعيه هنا إمعاناً في جلد الذات الجماعية، أو تذويتاً للهزيمة والضعف، إنما إصرار على التمرّد العقليّ والإرادي على واقع تريدنا شروطه أن نُراوح على حالنا ...
إن كارثة الشعب الفلسطيني بدأت ما قبل عام 1948، ولكن ما حدث من تطهير عرقي جماعي هو الأكبر في تلك السنة يُسمّى جِزافاً بالنكبة .. ولا بد من الإشارة هنا الى قدرتنا "غير الطبيعية" على تقبُّل الأشياء والمصطلحات والمُسَمّيات المنقولة والموروثة على ما هي، دون التمعُّن فيها ونقدها وتفكيكها عند الحاجة، وإعادتها الى جذورها المؤسِّسة. وما أقصده هنا أبعد من المعنى اللُّغوي والفيللوجي للكلمات والمصطلحات ، فنوعية استخدام المفاهيم تُدلل على العقلية والطريقة التي نُفكِّر ونسلك بموجبها، وكيفما تفكِّرون تكونون..!؟
فقد كان من أوائل وأبرز مَنْ أطلقوا اسم النكبة، على تلك الكارثة، المؤرِّخ والمفكر القومي العَلماني قسطنطين زريق ، كما جاء في كتابه " معنى النكبة " . وامتاز زريق بكونه من رُوَّاد المدرسة النقدية العربية، ومن الداعين إلى إعمال العقل في المجتمعات العربية والنضال ضد الأوهام في سبيل الحرية والتحرُّر..
وللمفارَقة أدّعي، أن زريق ( وغيره من الباحثين والمؤرّخين والمفكرين.. الى يومنا هذا )
لم يُعْمِل عقله جيداً في هذه الحالة، أي في إطلاق تسمية النكبة، ومن ثمَّ ترسيخها في الذهنية العربية كما جاء في كتابه الآخر"معنى النكبة مجدّداً"...‼
ومن الجدير الانتباه، أن زريق، كما يقول هو بذاته، اعتكف بُعَيْد النكبة في بيروت لتدوين أفكاره وانفعالاته، وفي مدة لم تتجاوز الاسبوع كتب كتابه " معنى النكبة ". وهنا تتجلّى المؤثرات الانفعالية الغاضبة في إطلاق تسمية " النكبة "، والتسرُّع في استخدام المصطلحات والتسميات التي لا تتماثل مع هَوْل الحَدث وحقائقه وخلفياته المؤسِّسة .
وبالرغم من أن مضمون الكتاب المذكور عقلي ونقدي، خصوصاً للذات الجماعية، إلاَّ أن التسمية حملت من المخاطر والكارثية ما لا يحتمله العقل، وما لا يتناغم مع بعض مضامين الكتاب..
فالنكبة تحمل، في تركيبتها اللُّغوية وفي إيحاء معناها بُعداً قَدَرياً ثيولوجياً، وكأنها ضربة رَبّانية أو كارثة طبيعية.. وقد أسْهَب الباحث والمؤرِّخ إيلان بابِه في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين"، في إثبات عكس ذلك .. وامتداداً لاستنتاجات بابِه، وغيره من غير العرب، فإن مُصطلح النكبة، لا يعكس حقيقة ما جرى، ولا يستحق تسميةً لتلك الكارثة، مهما حاول بعض "المجتهِدين" من الإدّعاء أنه بالرغم من صحة ذلك فقد " حَمّلْنا مفهوم النكبة أبعاداً سياسية ووطنية وقومية وإنسانية عبر مسيرتنا النضالية ، ما يتجاوز الأبعاد القَدَرية "!!؟؟
أعتقد أن " الله" لَمْ يُشارك في النكبة، ولكن تَمَّ استحضاره واستخدامه، وقد استخدمه الجاني والضحية على حدٍ سواء ولكن في اتجاهات مُعاكسة ..!!
يُضاف الى ذلك أن النكبة بمعناها الحقيقي والجذري، فكرياً وسياسياً، تَحْمل في طيّاتها إعفاء الفاعل والجاني والمجرِم من تَحَمُّل المسؤولية وتَبِعاتها، وبالتالي التحرُّر مِنْ عِبء الإدانة وما يترتب عليها، وهو الأمر الأخطر ...
كما أن التسمية تعفي، ضمناً، الضحية من المسؤولية أيضاً وتُخرِج الذات الجماعية من حقيقة الفعل الارادي واللاإرادي المُمَهِّد ، ثقافياً وسياسياً ومجتمعيا، لما حدث عام 1948، وهذا الأمر لا يقل خطورة إذا ما أردنا فعلاً إيقاف نزيف " النكبة "..!!
إذن ، علينا إعادة فتح ملف النكبة جِدياً، من حيث التسمية ودلالاتها، ككارثة وكجريمة تطهير عرقي، ومن حيث العلاقات السببية بين الذاتي والموضوعي، وعدم التردُّد في قراءة وفهم واستيعاب العوامل الداخلية والخارجية للحدث، تلك العوامل التي ما زالت بجوهرها، لا بشكلها فحسب، ماثلة فينا وأمامنا ومن حولنا...
فأُفول العقل في الوعي وغياب الإرادة في العمل يُشكِّلان العنصرين الأساسيين، وليسا الوحيدين، في تشكيل الوعي الجَمْعيّ والفرديّ، الذي لم يرتقِ الى مستوى الصراع والتحديات...
ولا يجوز أن نَرْهَن الحاضر والمستقبل في زِنزانة الماضي، حتى لو كان هذا الماضي زاهياً، فكم بالأحرى عندما يكون " نَكْبَوَياً "... كما أن الماضي ليس مادة معرفية وَحَدَثية مُجردة، إنما مادة للإدراك وطاقة لشحن الحاضر نحو المستقبل٬ فمن يُحَدّق ويصبو نحو المستقبل لا يُراوِح في الماضي٬ بما يحمله من ذكرى وذكريات وذاكرة، بل يسعى لتجاوزه وتجاوز إسقاطاته..
وفي هذا السياق، لا بُد من بعض الإشارات السريعة الى عدد من القضايا المرتبطة بالموضوع...
فلم يجر التوقف مَلياً عند إحدى أهم المحطات التاريخية للجماهير العربية الفلسطينية، الباقية في وطنها، عندما أخْرجت الخطاب الجماعي لرواية " النكبة وحق العودة "من قُمقم الوعي، حين أحْيَت للمرة الاولى الذكرى الخمسين للنكبة عام 1998 ،عبر مسيرة العودة الى قرية صفورية الجليلية المهجّرة، وأفَرَجتْ بذلك عن الرواية وعن المصطلح، دون ان يعني ذلك ان تلك الرواية لم تكن حاضِرة في الوعي ما قبل هذا التاريخ ...
وفي الجانب الراهن من الحالة " النكبوية " المتواصلة، فإن الشعوب والأُمم التي تُقرِّر أن "السلام" هو خَيارها الاستراتيجي والوحيد، ليس في السياق الإسرائيلي حَصْراً، فإنها تدعو ضمناً الى الانتحار الجماعي٬ دون أن تفقه أبجديات الحياة وديناميكية التطور ومعنى الوجود وطبيعة الصراعات الوجودية، والتي تتجاوز الحُقوقية…
وفي نهاية تلك الإشارات العاجلة، حالياً، والتي يتطلب كل منها وقفة مُنفصلة ومُتَّصلة، أرغب في التأكيد على عدد من الاستنتاجات والنتائج٬ ومن أهمها أن الحق لوحده لا يضمن لصاحبه الانتصار بالضرورة، لا في الحرب ولا في السِّلم٬ وأن الحتمية التاريخية وَهْم في غياب إعمال العقل وتفعيل الإرادة المؤثرة في صناعة التاريخ والفِعل الإنساني ..!؟ وأن تحرير الأوطان يتطلب حرية الإنسان أولا وأساساً٬ فإذا لم يكن الإنسان حُرّاً يكون مُجرَّد شيئاً٬ ولا يستطيع تحرير الأوطان سِوى الأحرار..‼!
فالحرية والتحرُّر يشترطان وجود أحياء كي يتحقَّقا، والشعوب الحيَّة، كما الأفراد الأحياء، لا بدّ لها أن تكون سّيدة نفسها وتعتمِد على ذاتها، أولا وأخيراً، بمعزل عن أي دعم أو تضامن "خارجي"، وتقاوِم الواقع والظروف وتصنع ما يبدو مُستحيلاً، من خلال توسيع الممكن، بأدوات واقعية علمية وعملية.. وإدارة الصِّراعات برؤية وذهنية وأدوات إدارة الصّراعات، بعلمية ومنهجية، ودون ارتجالية وعشوائية، وليس بذهنية إدارة الأزمات..!؟
ونستحضر هنا مقولة أينشتاين، كلازِمَة، عندما قال إنه من الغباء أن تُعيد وتكرِّر نفس التجربة وبنفس الأدوات وأن تتوقع نتائج مختلفة..!؟
وأخيراً، حين يكون الفكر خارج إدراك الضرورات، يفقد مُبرِّرات وجوده واستمراريته، والفكر الذي لا يهدم لا يعرف البناء، وما قصدته هنا هو محاولة لبناء جديد ومختلِف٬ يَنْبَلِج من رُكام الماضي وبُؤْس الحاضر٬ نحو مُستقبل مُمْكِن ومُحْتَمَل..!؟
الجليل - أيار /2018
[email protected]
أضف تعليق